الجوع يطارد العالم العربي رغم التراجع العالمي في أسعار الغذاء
رغم تراجع أسعار السلع الغذائية عالميًا خلال الأشهر الأخيرة، تكشف البيانات الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) عن مشهد يتسم بالتعقيد والتفاوت الحاد بين الاتجاهات العالمية والواقع المعيشي في المنطقة العربية، ففي الوقت الذي سجل فيه مؤشر أسعار الغذاء انخفاضه الثالث على التوالي في شهر نوفمبر الماضي، تصاعدت مستويات الجوع وانعدام الأمن الغذائي في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقدين، في مفارقة تلخص حجم التحديات التي تواجهها المنطقة وسط أزمات متشابكة ومتسارعة.
التراجع العالمي في الأسعار
أعلنت منظمة الأغذية والزراعة في تقرير صدر الجمعة أن متوسط مؤشرها الشهري الذي يرصد أبرز السلع الغذائية المتداولة عالميًا بلغ في نوفمبر 125.1 نقطة، منخفضًا بنسبة تقارب واحد ونصف في المئة عن الشهر السابق، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ بداية عام 2025. كما كشف التقرير عن تراجع المؤشر بنسبة تتجاوز اثنين في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبانخفاض يقارب اثنين وعشرين في المئة عن المستوى القياسي الذي سجله في مارس 2022 مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وفق وكالة رويترز.
وتُعزى هذه الانخفاضات إلى تراجع أسعار عدة سلع رئيسية باستثناء الحبوب، فقد سجلت أسعار السكر أقل مستوياتها منذ ديسمبر 2020 نتيجة توقعات بوفرة الإنتاج العالمي، بينما واصلت أسعار منتجات الألبان انخفاضها للشهر الخامس على التوالي مدفوعة بزيادة إنتاج الحليب والمعروض للتصدير، كما شهدت أسعار الزيوت النباتية هبوطًا جديدًا، خصوصًا زيت النخيل، في حين تراجعت أسعار اللحوم بشكل طفيف، وتصدرت لحوم الخنزير والدواجن هذا الانخفاض، في المقابل ارتفع مؤشر أسعار الحبوب بنسبة تقترب من اثنين في المئة بسبب توقعات الطلب من الصين والتوترات الجيوسياسية في منطقة البحر الأسود، إضافة إلى تأثيرات الطقس في أميركا الجنوبية.
إنتاج قياسي وتوقعات متحسنة
في تقرير منفصل، رفعت منظمة الأغذية والزراعة توقعاتها بشأن الإنتاج العالمي للحبوب خلال عام 2025 إلى مستوى قياسي يبلغ ثلاثة مليارات طن، بزيادة عن توقعاتها السابقة، مرجعة ذلك بشكل أساسي إلى ارتفاع تقديرات إنتاج القمح، كما أشارت المنظمة إلى ارتفاع متوقع في المخزونات العالمية للحبوب بنهاية موسم 2025 – 2026 لتصل إلى نحو 925 مليون طن، وهو مستوى غير مسبوق يعكس تحسن المخزونات في عدة دول كبرى من بينها الصين والهند.
أعلى مستويات الجوع عربيا
إلا أن هذه المؤشرات الإيجابية على المستوى العالمي لا تجد صداها في المنطقة العربية، حيث تشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى تدهور غير مسبوق في الأوضاع الغذائية، فوفق تقرير إقليمي مشترك أصدرته اليوم منظمة الأغذية والزراعة بالتعاون مع عدة وكالات دولية، بلغ عدد من يعانون الجوع في الدول العربية خلال عام 2024 نحو 77.5 مليون شخص، أي ما يعادل ما يقارب ستة عشر في المئة من إجمالي السكان.
ولا تتوقف الأزمة عند حدود الجوع، إذ يكشف التقرير عن أن ما يقارب مئتين مليون شخص في المنطقة عاشوا درجات متفاوتة من إنعدام الأمن الغذائي بينهم أكثر من سبعة وسبعين مليون شخص في حالة انعدام حاد، وهي حالات تعني فقدان مصادر الغذاء الأساسية والاضطرار لتقليل الوجبات أو قضاء أيام كاملة دون طعام، وبحسب التقرير، ارتفعت مستويات الانعدام الحاد بنسبة تتجاوز ستين في المئة منذ عام 2015، مما يعكس مسارًا شديد الخطورة واتساعًا في فجوة القدرة على الوصول إلى الغذاء.
النزاعات وحروب الاستنزاف
يشير التقرير الأممي إلى النزاع باعتباره العامل الأكثر تأثيرا في تدهور الأوضاع الغذائية، ففي غزة، حيث أعلنت المجاعة رسميًا في أغسطس 2025، أدت سنوات الحصار وأشهر من التصعيد العسكري إلى انهيار شامل للنظام الغذائي والبنية التحتية، وتقييد وصول المساعدات الإنسانية، ما ترك مئات آلاف الأسر على حافة الهاوية.
وفي السودان أدى استمرار الصراع إلى نزوح ملايين السكان وتعطيل الزراعة وقطع الطرق التجارية وارتفاع الأسعار إلى مستويات تفوق قدرة أغلب الأسر، وفي اليمن لا يزال النزاع الممتد منذ سنوات يقوض قدرة البلاد على إنتاج الغذاء وتعطيل الأسواق ومصادر الدخل، ما يجعل المساعدات الإنسانية شريان الحياة الأساسي لملايين السكان.
اقتصادات تحت الضغط
لا يتوقف الأمر عند النزاعات فقط، بل تضاف إليها أزمات اقتصادية متراكمة، إذ تواجه العديد من الدول العربية تباطؤًا اقتصاديًا حادًا يصاحبه ارتفاع في أسعار الغذاء والوقود وتراجع في قيمة العملات الوطنية، إضافة إلى ارتفاع مستويات الدين العام، هذا الواقع يضعف قدرة الحكومات على دعم المواد الغذائية أو تمويل برامج الحماية الاجتماعية أو الاستثمار في الإنتاج الزراعي.
ويزيد تغير المناخ من تعقيد المشهد، إذ تتعرض المنطقة إلى موجات جفاف متكررة وارتفاع شديد في درجات الحرارة وتراجع هطول الأمطار، وتؤدي هذه الظواهر إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية وزيادة هشاشة النظم الغذائية، خصوصا في منطقة تُعد من الأكثر جفافًا على مستوى العالم.
أشكال متعددة لسوء التغذية
تواجه المنطقة العربية ما يسمى "العبء الثلاثي لسوء التغذية”، ففي حين يعاني خُمس الأطفال تقريبًا من التقزم، ترتفع النسب في الدول المتأثرة بالنزاعات لتتجاوز خمسة وثلاثين في المئة، كما يؤثر الهزال في نسب مرتفعة من الأطفال نتيجة ضعف أنظمة الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي.
وتعاني أكثر من ثلاثين في المئة من النساء في سن الإنجاب من فقر الدم، بينما تسجل المنطقة واحدًا من أعلى معدلات السمنة في العالم لدى البالغين بنسبة تتجاوز اثنين وثلاثين في المئة، ما يثقل كاهل الأنظمة الصحية ويزيد من انتشار الأمراض غير السارية.
ارتفاع تكلفة الغذاء الصحي
من أخطر ما يشير إليه التقرير ارتفاع تكلفة النمط الغذائي الصحي. فقد بلغ متوسط التكلفة في عام 2024 أكثر من أربعة دولارات للفرد يوميًا وفق احتساب القوة الشرائية، بزيادة تقارب أربعين في المئة مقارنة بعام 2019. وأصبح أكثر من مئة وستة وثمانين مليون شخص غير قادرين على تحمل كلفة الغذاء المغذي، ما يجعل مسألة الأمن الغذائي في المنطقة مرتبطة ليس فقط بتوفر الغذاء بل بقدرة الناس على شرائه والوصول إليه.
دعوة للتحرك
يدعو التقرير الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية إلى اتخاذ خطوات عاجلة وفعالة لتغيير المسار الحالي، تشمل هذه الخطوات دعم المؤسسات الوطنية وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية وتعزيز الإنتاج الزراعي القادر على الصمود أمام تغير المناخ، إضافة إلى تحسين أنظمة البيانات وتسهيل التجارة وتشجيع الابتكار في القطاع الزراعي والغذائي.
تُصدر منظمة الأغذية والزراعة تقارير شهرية لمتابعة تحركات أسعار السلع الغذائية العالمية عبر مؤشرها المعتمد منذ عقود، يضم هذا المؤشر خمس مجموعات أساسية تشمل الحبوب والزيوت النباتية واللحوم والسكر ومنتجات الألبان. ويُعد هذا المؤشر من أكثر الأدوات أهمية في متابعة اتجاهات الأسواق العالمية وتأثيرها على الأمن الغذائي، كما تصدر المنظمة تقارير سنوية وإقليمية بالشراكة مع مؤسسات الأمم المتحدة الأخرى لرصد وضع الأمن الغذائي والتغذية، وتُعد هذه التقارير مرجعًا رئيسيًا لصانعي القرار والباحثين والمنظمات الإنسانية.





