ازدواجية المعايير الغربية: حين تتحول الحرية والعلمانية إلى أدوات إقصاء
ازدواجية المعايير الغربية: حين تتحول الحرية والعلمانية إلى أدوات
إقصاء
كتب ـ معالي سعيد المصري
أوليڤييه روا… المفكر الذي فضح المسكوت عنه
أوليڤييه روا، المفكر والأكاديمي
الفرنسي وأستاذ الدراسات الشرقية، أحد أبرز الباحثين في قضايا الإسلام السياسي والعلاقة
بين الإسلام والغرب. شغل مناصب أكاديمية رفيعة في المعهد الأوروبي في فلورنسا والمدرسة
العليا للدراسات الاجتماعية في باريس، وشارك في مشاريع بحثية للمركز الوطني للبحث العلمي
الفرنسي. من مؤلفاته البارزة: فشل الإسلام السياسي (1992)، والإسلام المعولم
(2002)، والجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة (2008). في مجمل أعماله، قدّم روا تشخيصًا
دقيقًا لطبيعة العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، كاشفًا مفارقة "الحب والكره"
التي تطبع هذه العلاقة.
العلمانية: من حياد الدولة إلى إقصاء الدين
يؤكد روا أن العلمانية في
أصلها، كما تجسدت في القانون الفرنسي لعام 1905، قامت على فصل الدين عن الدولة مع احترام
حرية المعتقد، لكنها تحولت في الممارسة المعاصرة، خاصة تجاه الإسلام، إلى أداة إقصاء
ممنهج. فعلى سبيل المثال، القوانين التي حظرت ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية أو
الرموز الدينية في المؤسسات العامة، فُسرت في العالم الإسلامي على أنها استهداف مباشر
للدين، لا التزام بمبدأ الحياد. وفي حالات كثيرة، تحولت العلمانية إلى "فلترة
ثقافية" تهدف إلى تشكيل هوية عامة تتناغم مع القيم الغربية، حتى لو كان ذلك على
حساب التنوع الديني.
الديمقراطية المشروطة: الولاء قبل الانتخابات
يشير روا إلى أن الديمقراطية
التي يروّج لها الغرب في العالم الإسلامي ليست ديمقراطية مبدئية، بل مشروطة بنتائجها.
في الجزائر، عندما فاز الإسلاميون في الانتخابات التشريعية عام 1991، أيدت دول غربية
الانقلاب العسكري الذي ألغى النتائج. وفي فلسطين، بعد فوز حركة حماس عام 2006 في انتخابات
نزيهة، جاء الرد الغربي بفرض حصار سياسي واقتصادي خانق على الشعب الفلسطيني. في كلا
الحالتين، أرسلت الرسالة بوضوح: الديمقراطية مقبولة ما دامت لا تأتي بقوى سياسية تعارض
مصالح الغرب.
حرية الفكر… ضمن الإطار المرسوم
ينتقد روا الاستخدام الانتقائي
لشعار حرية الفكر، حيث تُقبل الأصوات الليبرالية أو تلك التي تتبنى الرؤية الغربية
للإسلام، بينما تُشيطن الأصوات النقدية أو المستقلة بوصفها متطرفة. هذا النمط يتكرر
في المؤسسات الأكاديمية والإعلامية الغربية، حيث يُفتح المجال لمن يتبنى خطابًا
"مُطمئِنًا" للغرب، فيما تُقصى أو تُحاصر الأصوات التي تدافع عن خصوصية الهوية
الإسلامية أو نقد السياسات الغربية في العالم الإسلامي.
صناعة "الإسلام المطيع"
يحلل روا كيف يسعى الغرب إلى
إنتاج نموذج من "الإسلام المطيع" أو "الإسلام المعتدل" وفق تعريفه
الخاص، وهو إسلام منزوع البعد السياسي، منزّلٌ في إطار ثقافي مُعقّم، لا يُهدد مصالحه
ولا يناقض قيمه. ويحذر من أن هذه المقاربة تؤدي إلى تهميش التيارات الإسلامية الوطنية
والمستقلة، وإفساح المجال لتيارات هامشية أو نخبوية بعيدة عن قاعدة المجتمع، مما يفاقم
فجوة الثقة بين النخب الحاكمة والشعوب.
"إسلامنة التطرف" لا "تطرف الإسلام"
من أطروحاته الشهيرة، يرى
روا أن موجة العنف التي تُنسب إلى الإسلام في الغرب ليست نتاج "تطرف الإسلام"،
بل نتيجة "إسلامنة التطرف"، أي أن شبابًا مهمشين في الضواحي الأوروبية، يعانون
من فقدان الهوية وانعدام الأفق، يجدون في الإسلام غطاءً لهويتهم المفقودة، فينخرطون
في أعمال عنف ذات طابع سياسي أو انتقامي، لكنها تُختزل إعلاميًا في صورة "تطرف
ديني".
أمثلة معاصرة على ازدواجية المعايير
• حظر المآذن في سويسرا
(2009): في استفتاء شعبي دعمته أحزاب يمينية، مُنع بناء المآذن الجديدة، في تناقض صارخ
مع حرية العبادة التي ينص عليها الدستور.
• قوانين الهجرة: في دول أوروبية عدة، تُربط سياسات الاندماج بمدى تبني المسلمين لقيم
المجتمع، وهو معيار فضفاض يُستخدم للضغط الثقافي والديني.
• الحروب تحت شعار "حقوق الإنسان": من العراق إلى ليبيا، استخدمت قيم الحرية
والديمقراطية غطاءً لتدخلات عسكرية أطاحت بأنظمة، لكنها لم تنتج استقرارًا ولا احترامًا
لحقوق الإنسان.
يصل روا إلى أن الغرب، في
تعاطيه مع العالم الإسلامي، لم ينجح في فصل القيم الإنسانية عن الأجندات السياسية.
العلمانية، الديمقراطية، وحرية الفكر، تتحول في التطبيق إلى أدوات اختبار ولاء، أكثر
من كونها مبادئ عالمية. إن هذه الازدواجية لا تهدد فقط مصداقية الغرب أمام الشعوب المسلمة،
بل تزرع أيضًا شعورًا بالاستهداف، يساهم في تعميق الفجوة الحضارية بدل ردمها.






