إسكات الضمير

{title}
أخبار دقيقة - منذ السابع من أكتوبر المجيد ظهرت مصطلحات ارتبطت بكل ما يجري في الأرض الفلسطينية من عذابات واعتداءات ووحشية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر إلا ما قيل عن حروب النازية وحروب المغول والحربين العالميتين، مع مفارقة كبيرة أن تلك الحروب كانت بين أطراف متكافئة وبين جيوش متقابلة، فيما لا يمكن وصف الإبادة التي تجري في غزة على أنها حرب بين طرفين، فهي كما قالها بالأمس الرئيس البرازيلي حرب خسيسة مكتظة بالنذالة والجبن من طرف مدجج بالسلاح ويتفاخر أنه من أقوى جيوش العالم، مع مدنيين عزّل لا حول لهم ولا طول، إنها أقذر الحروب تلك التي تستخدم فيها أعتى الأسلحة التدميرية على صدور الأطفال والمرضى وكبار السّن والنساء والعاملين في القطاعات الخدمية الأساسية كالصحة والتعليم والإعلام، هذا ما يجري على أرض غزة وفلسطين طيلة 140 يوما من التوحّش الدموي الإجرامي. ليتني أمتلك الأدوات والفرص لأوثق وأروي الحكايات الغارقة في الوجع البشري ممن ما زالوا ينتظرون بريق أمل في أن ينجو من حمامات الدم، ومن الذين ارتقوا درجات الشهادة وهم يتأوهون من المرض والألم والجوع والبرد والعطش والفاقة والتحاف العراء، من الذين توقف الزمن لديهم، ولم يعودوا يعدون الساعات أو الأيام بعد أن تشابهت ألوانها وتلطخت بالسواد القاتم والأحمر القاني. كان العالم يصرخ مندداً عندما يسقط صحفي أثناء تأديته لعمله الصحفي، في غزّة استشهد كل من يمكنه التصوير أو الكتابة أو التوثيق، استشهد الصحفي والإعلامي والمؤثر والمساعد وأهاليهم، استشهد المريض والممرض والطبيب والمسعف وعامل النظافة. استشهد الطالب وزملاؤه والمعلم ورفاقه وعائلاتهم. كأنه محو الذاكرة مع إبادة الحياة وتفاصيلها، كلما شاهدت أحد الهواة على شاشة فضائية، الذين أصبحوا مع الوجع اليومي يحترفون الصحافة ونقل الخبر، ينقبض قلبي خوفاً وخشية عليهم بأن يصبحوا غداً هم الخبر. وهذا ما يحدث فعلاً، كم من ناقل للخبر أصبح هو الخبر، وكأن الجيش الصهيوني النازي يتقصد وأد كل صوت وصورة لنا. حتى ذاك المقطع الذي تم بثّه بالأمس عبر قنوات فضائية عن زواج عروسين في ملعب خان يونس، ليجيء خبر استشهادهما صباحاً، أتذكر المكلوم الصحفي وائل الدحدوح الذي نذر كل شيء في سبيل نشر الحقيقة، ليتم اقتطاع امتداداته العائلية بالقصف المتعمد حتى أصبح رأسه جاهزاً للقطع لولا أن اضطرته الإصابات إلى المغادرة للعلاج. عن ماذا أتحدث، هم ليسوا أرقاماً ولا مجرد أعداد في إحصائية يتم تناولها من قبل المهتمين والباحثين. إنهم مثلنا تماماً وربما يتفوقون علينا في علمهم وأخلاقهم ومكانتهم في الدنيا والآخرة، إنهم بشر يعيشون تفاصيل الحياة، يحلمون بيوم أجمل، يشعرون بالوجع الإنساني في أقاصي الأرض، يبتهجون ويغضبون ويمتعضون، لديهم أطفال كانوا يريدون لهم أن يكبروا ليحملوا عنهم بعض أعباء الحياة. من يروي لنا الحكايات، من يوثق لنا الشهادات، من يقول ولو لمرّةٍ واحدة الحقيقة كما هي وكما حدثت دون مبالغة ودون إنقاص. إنه وجع مزمن وظلم وقهر إنساني عزّ نظيره في التاريخ البشري، قد لا ننتصر في النهاية ضمن مفاهيم الحروب، لكن إسبارطة الظالمة انتهت وحفظ التاريخ أثينا التي أعلت من قيمة المعرفة والعمل والحياة، المغول انتهوا، وبقيت بغداد ودمشق وسمرقند، هتلر انتهى وبقيت ليننغراد شاهدة على العصر، هكذا هو التاريخ لا يحابي القاتل المجرم مهما كان لبوسه وقوته وقسوته. غزّة شوكة في حلوقهم جميعاً، غزة تسطر للمجد حروفاً من كرامة وحرية وإنسانية حقّة. قالها بن غوريون وقالتها غولدا مائير بأن الفلسطينيين سيذوبون في الصحارى العربية ويندثرون، وستنسى أجيالهم اللاحقة القضية، ماتت أجيال النكبة والنكسة، وها هم أطفال ما بعد عقود ثمانية من الاحتلال والاغتصاب لفلسطين، يحملون القضية في وجدانهم كأن النكبة حدثت الآن. مات الإعلامي والطبيب والأستاذ والمريض والطالب والمسعف وخادم المسجد والإمام والمصلون والمرضى، مات البائع والمشتري، مات السارق والمسروق، مات المعتدي والمعتدى عليه، مات الظالم والمظلوم، مات المكان والزمان والشجر والحجر والذاكرة الشعبية والتراث المادي وغير المادي والكورنيش والأسواق والأزقة والحركة التجارية والأدبية والعلمية، مات كل شيء، وبقيت فلسطين، ثمانون عاماً ولم تكن فلسطين أقرب للتحرير منها الآن الآن الآن.
تصميم و تطوير