د. ماجد الخواجا : ما زالت غزة تقاوم

{title}
أخبار دقيقة -

مرَّ منذ السابع من أكتوبر 120 يوماً على أفظع عدوان وأنذل اعتداء شهدته البشرية في عصرها الحالي، عدوان على شعبٍ محاصر منذ عقود، حرب تسعى لإبادة المكان والزمان والبشر والحجر، تسعى لمحو الذاكرة الإنسانية، محو قطاع التعليم، عبر تدمير المدارس والجامعات وقتل المعلمين والطلبة، محو قطاع الصحة، عبر تدمير المستشفيات والمراكز الصحية وقطع الأدوية وقتل الأطباء والممرضين والمسعفين والمرضى والجرحى، محو ما ينبغي توثيقه ورصده، عبر المجازر الوحشية وقتل النساء والأطفال وتعرية الأسرى وإذلالهم، وقتل من يوثّق شيئاً من ذلك حيث لم يشهد العالم قتلاً للإعلاميين كما هو الحال في غزّة، محو الثقافة والفكر والروح المعنوية.

ها هو العدوان يدخل شهره الخامس، وبعد مرور هذا الوقت على عملية « طوفان الأقصى» واندلاع حرب الإبادة « الصهيونية-الأمريكية « على غزة، فلا يوجد اليوم حيّ واحد في غزة لا يحمل آثار الدمار والمتفجرات الثقيلة والتخريب المتعمد والعبث. من المهم أن نتذكر، ومن السهل أن ننسى، من بين مشاهد الموت والدمار منذ تشرين الأول، أن قطاع غزة مكان حقيقي، على الرغم من وجوده خلف سياج وتحت قيود مشددة، لم يكن مجرد «سجن مفتوح فحسب». فهو يضم مدناً وأحياءً على البحر الأبيض المتوسط مليئة بالشوارع التي تصطف على جانبيها الأشجار والزهور، وساحلا يوفر نوعا من الراحة من الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي. لقد تم الآن تدمير الكثير منها أو تجريفها بالجرافات. ما الذي يربط الفرد بوطنه، ويجعله يشعر أن هذا الوطن ملك له؟ ما الذي يمنحه الشعور بالهوية والانتماء؟، إنها الأشياء المادية مثل المكان الذي تعيش فيه، والمكان الذي ولدت فيه، والمكان الذي تقيم فيه عائلتك وأصدقاؤك. وخلف الجوانب المادية تكمن كل الأشياء الأخرى التي لا تفكر فيها، والتي تعتبرها أمرا مفروغا منه. مثل الموسيقى والأدب والفكاهة والفن والسينما والتلفزيون، كل الجوانب التجريدية للهوية التي تشكل نسيجا ضاما بينك وبين بلدك. رائحة الحواري والأرزقة، الإضاءة هنا وهناك، تلك المتعرجات والالتفافات بين الأحياء والمباني، تلك اللحظات التي كنت تلهو بها مع أقرانك من أطفال الحارة، ذاك البائع والحلاّق، هذا الجدار وتلك الساحة، ذاك المحل والمطعم والمقهى، مجموعة الزملاء الذين شاركتهم مقاعد الدرس والكرة والنزق والحماقات، أصوات الباعة المتجولين، لحظات ما قبل الإفطار وحركة الناس، تلك الزاوية على البلكونة تشاهد منها حركة البشر والمركبات، غزة تباد فعلاً ليس فقط في أرقام الشهداء والجرحى والمعتقلين، بل في إبادة الذاكرة والذكريات وكافة الأماكن والأشياء المادية المرتبطة بها. هذا شعب يريد الحياة، عندما بدأنا نستمع ونحفظ أسماء المدن والتجمعات والأحياء في غزة، نسمع أسماء المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، نعم غزة تحتضن كنيسة هي من أقدم الكنائس في العالم، أما المسجد العمري العريق تاريخياً والذي تم تدميره تماماً، فهو يمتد عبر الزمان شاهداً على عراقة المكان. حين بحثنا عبر اليوتيوب عن غزة ما قبل السابع من أكتوبر، شاهدنا مدناً تحتفي بالحياة وبحراً ممتداً يفيض فرحاً وبهجةً، لم تكن غزة كئيبة وبائسة كما كانوا يريدون لها، كانت تعلي من شأن التعليم عبر الجامعة الإسلامية العريقة، ومن شأن الصحة عبر عشرات المستشفيات التي حملت أسماء الدول المانحة والداعمة لها، عشرات المواقع التراثية التاريخية التي مسحت عن الأرض بفعل الهمجية الصهيونية، نعم إنها الإبادة الثقافية والاجتماعية والبشرية. غزة تدخل شهرها الخامس حاملة عذاباتها وجروحها وثكلاها وشهداءها، لكنها ما زالت رافعة سبابتها في وجه كل القبح والظلم العالمي لها. احفظوا في ذاكرتكم كل ما يمكنكم وسعه عن غزّة وجباليا وبيت لاهيا ورفح وخان يونس والنصيرات ومخيم الشاطئ، عن المستشفى الأندونيسي والقطري والتركي والإماراتي والأردني، عن المسجد العمري الذي تم تشييده منذ القرن الخامس الميلادي حيث كان بالأصل كنيسة بيزنطية، عن كنيسة القديس برفيريوس أقدم مجتمع مسيحي في العالم مضى عليه 2000 عام. هذه غزة ما زالت تقاوم بسبابتها أنذل عسكر وأقبح مخارز العدوان.
تصميم و تطوير