التباينات بين فرنسا وألمانيا.. تهديد لـ"الوحدة" الأوروبية؟

{title}
أخبار دقيقة -

تمر العلاقات الفرنسية-الألمانية بلحظة فارقة. التوتر بين البلدين كان موجوداً دائماً، لكنه ازداد حدة في سياق الحرب الأوكرانية، ولا سيما تحت العنوان العريض "الغاز الروسي"، إذ ترى ألمانيا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول إجبار المستشار الألماني أولاف شولتس على تحديد سقف أسعار الغاز، الأمر الذي وصفته صحف ألمانية بأنه محاولة لإرضاخ برلين من خلال تصريحات قاسية وإلحاح لم يتوقف.

من وجهة النظر الفرنسية، يعتبر الرئيس ماكرون أن ألمانيا أمام مسؤولية تاريخية، لكنها بدلاً من أن تقف أمام مسؤولياتها تحاول التغريد خارج سرب الاتحاد الأوروبي في مسائل الدفاع والطاقة، لدرجة أن البعض يصف شولتس بأنه أقل تقديراً للعلاقات الفرنسية الألمانية من المستشارة السابقة أنغيلا ميركل. هذا التباين تعززه وقائع كثيرة، منها جمود مشاريع الدفاع المشتركة، فألمانيا تقود مبادرة- من دون فرنسا- لإقامة درع جوي بمشاركة 14 دولة من دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، على أساس معدات أميركية وإسرائيلية، وهذا أمر وجدت فيه باريس خرقاً لمبدأ السيادة والاستقلال.

ملف الدفاع

ففي وقت وجدت فيه فرنسا الفرصة سانحة لتسويق مبادرة ماكرون حول تعزيز السيادة والاستقلال الأوروبيين في مسائل الطاقة والدفاع، بعد الحرب الأوكرانية، كانت ألمانيا غير جاهزة لسماع أطروحة الرئيس الفرنسي حول هذه المسألة عندما ترأست بلاده الاتحاد الأوروبي في دورته الماضية. فعندما شعرت ألمانيا بجدية التهديد العسكري-الأمني الذي تشكله الحرب في أوكرانيا على أوروبا، وعليها بشكل خاص، لم تلجأ لشراء طائرات رافال الفرنسية، بل توجهت إلى الولايات المتحدة مستغلة حرص إدارة الرئيس جو بايدن على إصلاح ما أفسده الإدارة السابقة عندما سحبت 11 ألفاً و900 جندي أميركي بحجة عدم التزام ألمانيا بدفع مزيد من الأموال لحلف شمال الأطلسي، وهذا أمر كانت تخشاه باريس منذ المئة يوم الأولى لتولي بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض. وفي توجه ألمانيا إلى الولايات المتحدة مبرر قوي، فالاتحاد الأوروبي يعيش واقعاً صعباً، تزينه صورة التضامن والرفض للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن خلف ذلك الانقسامات عميقة جداً، لا سيما في الجانبين الأمني والعسكري، ويضاف إلى ذلك مسألة البركسيت، التي ما تزال تداعياتها قائمة إلى اليوم، مع حتمية الانحياز البريطاني إلى السياسة الأميركية.

ملف الطاقة

بعد مداولات طويلة وشاقة، قبلت ألمانيا مبدأ المشتريات المشتركة للغاز، لكنها لا تزال تجد صعوبة، بل ترفض بشكل حاد، وضع سقف للأسعار، فالنموذج الألماني في الاستهلاك، كان يعتمد بشكل كبير على روسيا بالدجة الأولى، وعلى الصين بدرجة أقل، وهذا يجعل ألمانيا عاجزة عن أن تقرر شؤون الطاقة ومستقبل اقتصادها وحدها في سياق "الابتزاز الروسي" لها، الذي كان له دور كبير في قراراتها، فضلاً عن أن شولتس يبحث عن توافق في حكومة مؤلفة من ثلاثة أحزاب (الديمقراطيين الاجتماعيين والمدافعين عن البيئة والليبراليين)، ما يجعله منهمكاً في تسوية الشؤون الداخلية أكثر من اهتمامه بشؤون الاتحاد الأوروبي، مقابل أريحية فرنسية يملكها ماكرون المتمتع بسلطة مطلقة في ما يتعلق بالشؤون الخارجية. وكل تلك الوقائع جعلت المهمة في غاية التعقيد بالنسبة للمستشار الألماني، ووضعه في نقاش لم ينته إلى اليوم حول نموذج الطاقة والاقتصاد والدفاع، ودفعه لاتخاذ قرارات يعتبرها كثيرون "لم تخضع لمبدأ الحكمة" الذي يُعرف عن هذا البلد، مثل مراجعة اعتماده على الغاز الروسي، والاستثمار الكبير في الجيش، وتمديد عمر آخر ثلاث محطات للطاقة النووية في البلاد، والسماح لشركة صينية بالاستثمار في ميناء هامبورغ. لا شك أن الحرب في أوكرانيا أيقظت دولاً أوروبية كثيرة ودفعتها لإعادة صياغة استراتيجياتها الجيوسياسية، وبالنسبة لألمانيا يرتسم مبدأ إعادة صياغة استراتيجيتها الجيوسياسية في خطاب شولتس عندما أفصح عن رؤيته لمستقبل الاتحاد الأوروبي خلال قمة براغ الأخيرة، وضرورة أن تتجه أوروبا نحو دول شرق القارة لتحقيق شرط الوساطة بين شرق وغرب أوروبا، وفي ذلك تحجيم للدور الفرنسي-الألماني. لكن مع ذلك، علاقات صحية بين فرنسا وألمانيا، ما تزال ضرورية للتكتل الأوروبي، وهي عبارة يكررها معظم المسؤولين الأوروبيين، ومن هذا جاءت فكرة اللقاء بين ماكرون وشولتس في 26 أكتوبر الماضي، بعد إلغاء مجلس الوزراء الفرنسي-الألماني في الأسبوع الذي سبقه، خطوة يعتبرها البعض تجاوباً لصدى همسات فرنسية حول خيبة الظن والخوف من وصول التباينات إلى مرحلة يصعب تأطيرها وحلها لاحقاً، في لحظة تاريخية تمر بها أوروبا تتطلب الوحدة في خدمة دول شرق وغرب القارة، ليس من أجل ماض كان يوماً واعداً جداً، بل من أجل مستقبل يتطلب ذلك.
تصميم و تطوير