ابن غزالة الندى

{title}
أخبار دقيقة - كتب -  رمزي الغزوي 

يسمي الفلاحون الغيوم الصيفية التي تتولد مع الفجر وتسرح قريباً من وجه الأرض فارشة طراوتها على بوح الأشجار في سفوح الجبال، غزلان الندى، منها يرضع التين رضعات مشبعة؛ فيواخيها لينضج مشطباً بأسواط العسل.

وكأن أيلول يتعجلنا بغيوم ترفُّ جدائلها على بوح الطرقات وهدل على عمان. أيلول ذلك المُشرب بندف الياسمين وسحر الطيّون يقضم من شهرنا آب الذي بدأ حارقا فيطفئ حره، فارشاً نداه على أسطح السيارات وأوراق الغائبين. آب يوازي المكاثي والفقوس وبقاياها الطيبة، وأواخر عرائش البطيخ وأكواز الصبر) الناضخة على عربات الباعة كقلوب العاشقين.

فمع صوت المؤذن كنا ننفض عنا خفيف اللحاف، ونمسح على عجل أواخر النوم من مآقينا ونهرع إلى الكروم، فيما طائر الزرزور ما زال سابحاً بنومه الطفيف. والبلبل السكران ينوس بأواخر أغانيه، فننتقي عن الشجرة كلَّ حبةٍ تين نزَّ منها رضابُ الشهد.

التينة أمنا الرؤوم ومرتعنا البهي، ومخآبئنا من لهيب القائظة، ولفح الحر، على جذوعها الغليظة حفرنا أسماء حبيباتنا الصغيرات، بخجل جميل، وحضناها بخجل أجمل. التينة ذاكرتنا الحميمة في الشتاءات البعيدة ومواقد الحطب، فمع قلائد القطين (التين المجفف)، كنا نعبر برد كوانين، وثلوجها بدفء يدغدغ الدماء.

والقُطين نصنعه بطريقتنا، فننتقي أفضل الحبات من التين المعسول، ونرتبها على حجارة ملساء، في مكانٍ مشموس، ولكي نذبَّ عن تيننا المرصوف شراهة بعض الطيور؛ كنا ننصب فزاعة من خشبتين متقاطعتين، نلبسها قميصاً مهترئاً، وكوفية قديمة. وعند جفاف التين، وتحول لونه إلى ذهبي، يُنظم بخيوطٍ على شكل قلائد، نعلقها في البيوت لشتاءٍ قادم.

من التين ما يمتد إلى تشارين بثمره، فيعطيك مذاقاً آخر، ومنه ما يعطي أكلها مرتين في السنة، وشجر التين يعيش مروياً، والأشهى البعلي، المعتمد على ماء المطر، ولكل بصمته الذائقية الساكنة في قلب الذاكرة، البياضي، الرجافي، الخضيري، السوادي، العسالي، السطامي، إرقابي، ماوردي، حماضي ،حراقي، وغيرها مما نسيت اسمه، ولكن مذاقه يخلد في روحي.

وإذا كان أطيب الزيت، وأشهاه، وأقربه إلى لألأة الذهب ومائه، ذلك الزيت المجني من زيتونة لا شرقية ولا غربية، أي زيتونة مشموسة في كل حين، فإن أطيب التين، وأجله في ذاكرة التلذذ تينٌ ترضعه غزلان الندى.

تصميم و تطوير