الانسجام مع مجرى الحياة: من وهم السيطرة إلى وعي التسليم

{title}
أخبار دقيقة -
   كتب ـ دعاء أبو عبيد
في خضم انشغالاتنا اليومية، قد ننسى حقيقة بسيطة وعميقة في آنٍ معًا: الحياة ليست ساحة صراع، ولا اختبارًا دائمًا لإثبات الجدارة. لسنا هنا لننتصر، بل لننصت… لنتذكّر أننا خُلقنا في حالة انسجامٍ أصيلة مع هذا الوجود، مع تيار الحياة الإلهي، الذي يسير بنا بهدوء وعمق إلى حيث يجب أن نكون.

التيار الخفي الذي يسكن تفاصيل الحياة

الحياة ليست فوضى، وإن بدت كذلك في أوقات. هناك تيار خفيّ، لا يُقاس بالزمن، ولا تراه العين، لكنه يسكن كل تأخير، وكل لقاء، وكل غياب. هذا التيار ليس خارجنا، بل فينا، يسري في أرواحنا كما يسري الماء في الجذور.

عندما نولد، نكون متّصلين تمامًا بهذا التيار، لكن مع مرور الزمن، نبدأ في نسيانه. نتعلّق، نُقاوم، نحاول التحكم في مجرى الأمور، ونظن أن الأمان لا يُمكن أن يتحقق إلا عبر السيطرة، عبر الإمساك بكل شيء بكل قوتنا.

الخوف.. وهم الانفصال

حين نُصاب بالتعب، لا يكون من الحياة نفسها، بل من مقاومتنا لها. من اعتقادنا أن كل عسر هو عقوبة، وكل تأخير هو خلل، وكل فقدان هو نهاية.

الخوف لا يأتي من المواقف بحد ذاتها، بل من وهمٍ زرع فينا أننا وحدنا، وأن كل شيء متروك لنا لندبّره وحدنا. وهذا وهمٌ كبير، لأننا في الحقيقة لم نُترك لحظة واحدة دون عناية.

عندما ننسى اتصالنا بالله، حين يغيب عنا يقين أن هناك قوة رحيمة تُدبّر، ونورًا يسبق خطواتنا، نشعر أننا مضطرون لحمل الكون بأكتافنا لنكون بخير. وهنا يبدأ الاستنزاف.

السلام يبدأ حين نتوقّف عن المقاومة

الصحوة الروحية لا تبدأ من لحظة خارقة، ولا من معجزة سماوية تُنيرنا فجأة، بل من لحظة صدق نقول فيها: "أنا لا أريد أن أُقاوم أكثر.” لحظة نكفّ فيها عن الجري وراء كل شيء، ونتوقّف لنستمع لما بداخلنا. لحظة نصمت فيها، ويبدأ السلام في الهمس إلينا.

ليست كل الأجوبة ضرورية، وليس الفهم شرطًا للطمأنينة. أحيانًا، السلام الحقيقي يبدأ حين نثق، لا حين نفهم.

من الإيمان يولد الفهم

إن التيار الإلهي لا يُفهم أولًا، بل يُؤمن به أولًا. والثقة فيه تسبق التفسير، لأننا كثيرًا ما لا نرى الصورة كاملة. قد يبدو أن الأمور تمضي ضدنا، لكنها في العمق تعمل لأجلنا، تُعيد ترتيبنا من الداخل، تُنضجنا، تُفقدنا ما لم يعُد يخدم رحلتنا، وتُؤخر ما ليس وقته بعد.

تمامًا كما سلّم إبراهيمُ قلبه لله، ومضى مطمئنًا في بلاءٍ عظيم، فجاء الفرج في اللحظة الأخيرة، وفُكّت المحنة بلطف إلهي يفوق الفهم.

"فلمّا أسلما وتلّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدّقت الرؤيا… وفديناه بذبحٍ عظيم.”
"سلامٌ على إبراهيم.”

هذه ليست مجرد قصة، بل رمزٌ خالد: أن السلام يأتي بعد التسليم، لا قبله. وأن النجاة الحقيقية لا تكون بالمقاومة، بل بالثقة.

العودة إلى الذات

السير مع التيار ليس انسحابًا، بل عودة. عودة إلى خفّتنا الأولى، إلى صدقنا مع أنفسنا، إلى وعينا بأننا لسنا وحدنا في هذا الطريق.

أن نُمسك الأشياء بخوف هو ما يرهقنا، أما حين نُفلتها بثقة، يبدأ التحوّل. حين نردّد في قلوبنا:
"كل ما يحدث… يحدث لصالحي، ولو بدا العكس.”

نكون قد بدأنا في الانسجام من جديد، مع الحياة، ومع أنفسنا، ومع الله

تصميم و تطوير