"هدهد سين" ديوان الحب الوجداني ببعده الواقعي
لا يخفت صوت الشعر في العالم العربي، وإن تسارعت وتيرة الأعمال السردية، وشبه لكثيرين طغيانها النهائي على الشعر، في عقر داره، و"الشعر ديوان العرب". ما يحملنا على هذا القول، واقع الإصدارات الشعرية الجديدة لهذا العام ومنها إصدار الشاعر اللبناني - الكندي، والسيناريست علي مطر (1968)، بعنوان "هدهد سين" (دار مرفأ للنشر، بيروت (2024).
يقول رومان ياكوبسون، في كتابه "مسائل في الشعرية"، "إن الحب في الشعر هو الموضوع غير العقلاني بامتياز"، بالتالي هو المادة الأثيرة التي من شأنها أن تحول الكلام عن سكته الواقعية والمرجعية، وتكسبه حللاً من الرموز والانطباعات والصور والرؤى والهواجس والإسقاطات. وهذه الأخيرة إن هي إلا الشعر الذي يتعالى على مدارج البوح والغنائية وتشكيل زوايا النظر إلى العالم المتخيل، مع الحبيبة، وبفضلها، يحسن نظمها الشاعر، وإخراجها على الأسلوب والنوع (قصيدة النثر، هنا)، اللذين يخلص إلى تكوينهما وتحميلهما معاني دالة على تجربة الشاعر وغنى موسوعيته ودفقه الأسلوبي.
وبالعودة إلى المجموعة الشعرية هذه تتشكل من 55 قصيدة، تراوح ما بين قصائد مفردة، وأناشيد تتكون بدورها من قصائد، من مثل نشيد ("كي ترى سين مثلي" المؤلفة من ثلاث قصائد)، و"مسرحية (شعرية) قصيرة جداً". على أن الظاهرة المضافة والجديدة في تكوين هذه المجموعة، المعتبرة أثراً كاملاً، هو تعديل الشاعر النظر إلى بعض القصائد، بل توشيح معظمها بوشاح نوع آخر رديف للشعر، وملائم لخطابية وجدانية غنائية سار عليها الشاعر، أعني المسرح، إذ اعتبر القصائد أقرب ما تكون إلى مشاهد شعرية، كل منها يسلط ضوءاً على جانب من المحبوبة "سين"، أو يخلق زاوية للنظر جديدة إليها أو يمسرح من خلالها مشاعره حيال المحبوبة وأفعاله وتصرفات الكائنات التي يصنع بها صورتها المثالية، بل أسطورة سين، أو "أيقونة للمجون"، كما يقول الشاعر علي مطر، في قصيدة بهذا العنوان، لأن ما يدخل في حسبان الشاعر العاشق كون المحبوبة ماثلة في فعل الحب جسداً، وإثارة، واشتهاءً، وأحاسيس. ومن هذا القبيل، كان إدخال الشاعر عناوين بالإنجليزية لـ17 قصيدة، وجعل لبعضها عنواناً رديفاً بالعربية.
أنه لم يدع هذا التطعيم في الشكل والنوع يسهمان وحدهما في حفلة التغريب الفني، وإنما أدخل إلى متن نصه ست رسمات تعبيرية بريشة الفنان شوقي يوسف، موزعة على مقاطع الكتاب ومفاصله الكبرى.
غنائية من أجل سين
لا تخطى العلامات النصية التي لا يني الشاعر يرسلها في ثنايا قصائده، في الدلالة على وجدانية غنائية تكاد تكون عارمة، أو أقله محافظة على وتيرتها العالية عبر القصائد كلها، في المجموعة. ذلك أن أنا الشاعر العاشق تصدح، على امتداد العمل الشعري، معلنة انحيازها إلى المحبوبة، بل ذوبانها في كيان المحبوبة، وتسخيرها كل ما تملك، أي ذات الشاعر، من مشاعر، ومظان، وحواس، وأجهزة جسمانية، وأعضاء، وقدرات على النظم، في خدمة المحبوبة، وفي سبيل تمكين حضورها وإعلاء صورتها، وإدامة أثرها في روحه. مثلما لا تخطى الإشارات المتناثرة، على توالي القصائد، إلى تنامي الخطاب الغنائي حتى بلوغه ذروة البوح بالعشق الكلي والاستسلام الكامل للحبيبة. يقول في قصيدة بعنوان "اسم ليل أم نهار، أم ما حار بينهما" بهذا الشأن: "كل طريق يؤدي إليك/ كل واد، كل خيط على جبين غيمة/ كل ممر هوائي/ أنا عصفورك الذي لا عش له غيرك/ سين أنا منغمس بالحب الذي أنت/ أسطورة واقعية أنت. هكذا تحقق المستحيل/ ليكن نهارك نهار العاشقة/ ستخرج نوتة كان يفسر فيها الغموض/ أحبك، أحبك فحسب، أنا رفيق شهدك" .
على أن تتبعها ذروة غنائية أخرى، وبوح آخر، في ختام كل قصيدة أو نشيد، أو أحد مفاصل المجموعة ذات البنيان المتكامل، ينشد فيها حبه للمحبوبة، ويعلن تحقيق وعده لذاته، ووفاءه لها، وصيرورة كيانه المخلوق لأجلها.
يقول: "لقد حولوا مجرى التضرع إلى الذي يلجأون إليه/ وأنا حولت مجرى العشق برمته/ إلى سين"، "أنا شيف الحب يا حبيبتي/ وهذه ال يامّي التي حملتها أنفاسك/ هي سعر أطباقي"، "أنا أفكر طوال الوقت كيف أموت بجسدك/ كيف أشرب رطوبتك المتحركة بين مدينتين/ لن يكون سوى حبنا بعد اليوم..."، "أنا حبك الحقيقي الذي يجوب بيروت/ يتحدث عنك، حبيبتي تنسج في قصائدها/ حكايات الزمان والمكان".
وبالإجمال هي غنائية تعبيرية، وإن حاكى فيها الشاعر علي مطر سائر التجارب الغنائية في تراث الغزل العربي والأجنبي، قديمه وحديثه، فإنه سلك فيها سلوكاً خاصاً، منوعاً في خطابه، ومبتكراً في صوره الشعرية، ومتخيراً في ألفاظه وخزينه المعجمي وتراكيب لغته، ومزجه بين العربية المبسطة والسردية وبين بعض الكلمات والعبارات بالإنجليزية المستلة من معجم الكتابة المسرحية والسينمائية، على حد ما كان أورده في عناوين قصائده الـ17، المشار إليها أعلاه.
لغة شعرية
وفيما تشكلت منه لغة الشاعر علي مطر، في مجموعته الشعرية الآنفة، يتبدى للقارئ أن فيها أثراً من رومنطيقية الاندفاعة الوجدانية الغنائية التي سبق الكلام عليها، مشحونة بمعجم الحب، والإقبال على كل النعم التي يوفرها التقرب من المحبوبة، ذات الكينونة المثالية المستدل عليها بصور شعرية نموذجية (النبع، و"الحب في منتهاه"، وزهرة اللوتس، وساندريلا، وشقيقة القمر)، وأن فيها أثراً من سوريالية ملطفة، تدعمها سردية قصيدة النثر، وانسيابها، يوظفهما الشاعر لإبراز وجود الحبيبة في المكان والزمان المرجعيين.
"كنت أصادفها أينما كان تقريباً/ في نيوتن سويراي حيث كنت مارست صيد الكاميرات القديمة من محال "ثريفت ستورز/ حيث عملت في صناعة البيتزا،/ أو في النواحي البعيدة عن المدن/ حيث بقيت الجداول تذكر بالدموع/ كلما مررت بها تستوقفني قليلاً/ لأسمع خرير دموع الأرض".