#عاجل..الشاقلدي يكتب :يحيى السنوار .. مهندس "الطوفان".. وذخيرة المجاهدين - بورتريه

{title}
أخبار دقيقة -
يحيى السنوار .. مهندس "الطوفان".. وذخيرة المجاهدين 
كتب  _ فايز الشاقلدي 

"هكذا يموت الابطال والقادة " .. استشهد المجاهد يحيى السنوار، رئيس حركة المقاومة الاسلامية "حماس" منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش "الإسرائيلي"، في إحدى أسخن جبهات القتال في جنوب القطاع، وأكثرها ضراوة، تل السلطان في رفح. لم يكن مختبئاً في نفق عميق تحت الأرض، ومن حوله الأسرى "الإسرائيليون" أو من بقي منهم حيّاً، كما كان يردّد "الإسرائيليون والأميركيون" لتبرير العجز عن الوصول إليه طوال عام كامل، بل كان يتجوّل مع المقاتلين في ساحة اشتباك مع جيش الاحتلال ، لابساً سترة عسكرية، وفيها قنابل يدوية، بحسب ما جاء في الرواية "الإسرائيلية" . 

غاب المجاهد ... عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيسا لحركة المقاومة في غزة. وبعد ستّ سنوات أخرى، أطلق الهجوم التاريخي على إسرائيل، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فتزعزع المشهد كلّه من غزة إلى كلّ أنحاء العالم. نسف قواعد اللعبة. خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير الذي اسمه غزّة، وفي ذهنه خطّة جاهزة، بعد دراسة مطوّلة لعقل عدوّه. لن يكتفي بتحرير ما بقي من أسرى، بل دفعه طموحه ليحرّر معتقلي السجن الكبير أيضاً، بعملية اقتحام للأسوار المنيعة، وجرف كلّ القواعد الحاكمة، سمّاها السنوار ورفاقه في الكتائب القسّامية "طوفان الأقصى”، حين كان 30% فقط من غزة يثقون بحكومة حماس، و22% أو أكثر قليلاً يثقون بحركة حماس، وذلك وفق استطلاع لمؤسّسة الباروميتر العربي، قبيل "طوفان الأقصى”.
هذا الطوفان بتداعياته العاصفة أوصله أخيراً ليكون قائد حماس بعد اغتيال رئيس مكتبها إسماعيل هنيّة في طهران. مع كلّ هذه المسيرة الطويلة، ومع كلّ الوضوح في خطاباته وتصريحاته، يبقى شخصية غامضة، كلّ الغموض في صراحته المطلقة التي لم تكن "إسرائيل "قادرة على استيعابها . 

تصريحات أبا ابراهيم .. 
لم نعتد أن نسمع  منه كلمة أو تصريحاً في الحرب، إلا أن نرى بعدها فعلاً بطوليّاً استثنائيّاً في أرجاء القطاع كافّة، حتى يصل الى زعزعة آمن الكيان المحتل ... والفعل كان مشاهداً واضحاً يفهمه العالم بلا ترجمان، إلا أنّ آخر رسالة لأبي إبراهيم وجرحه نازف، وإصابته بالغة، بأنّ القوة الرمي حتى لو كانت عصا من خشب . 
قدّم في حياته أروع مثال على صدق العقيدة، وحرارة الإيمان، وصلابة الحق، والعمل الجادّ، وعمق الانتماء لفلسطين، والتجرد من زينة الدنيا . 
ربع قرن إلا قليلاً قضاها في سجون الاحتلال، ما طالت من عزيمته، ولا غيّرت من بوصلته، ولا أزاحته عن مسار التحرير الأبلج . 
أبا إبراهيم.... فضحت باستشهادك كذبهم، أرادوك مختبئاً في نفق، أو متترساً بأسير، أو محتمياً بأهل، أو مستسلماً، أو مدبراً عند اللقاء، فأبيت إلا أن تسوء وجوههم، فخاب ظنّهم، وخسر سعيهم؛ فما وجدوك إلا شجاعاً مقبلاً، حريصاً على الشهادة حرصك على الظفر . 
السّجن مدرسة السّنوار وأكاديميته ..
خرج أبو إبراهيم من السجن الصغير ليقود السجن الكبير (غزة)، وينفّذ أخطر تمرّد ضدّ الاحتلال في تاريخ النضال الفلسطيني منذ النكبة عام 1948، فصدر القرار عن السجّان بقتل كلّ السجناء مع الرهائن "الإسرائيليين"، بكلّ الوسائل المتاحة، قصفاً، وتدميراً، وتعطيشاً وتجويعاً.
 لم يقضِ السنوار أيامه الطويلة في السجن "الإسرائيلي" دون الإفادة منها في فهم عدوّه اللدود. السجن كان له بمنزلة "الأكاديمية”، فهو مكان تعلّم فيه السنوار لغة العدوّ، ونفسيّته، وتاريخه.
 وكسواه من السجناء الأمنيّين، أضحى السنوار مفوّهاً باللغة العبرية، وكان يقرأ بنهم الصحف، ويستمع للإذاعات "الإسرائيلية"، إضافة إلى الكتب عن منظّري الفكر الصهيوني، والسياسيين، وقادة الأجهزة الأمنيّة .
طوال مدّة سجنه، لم ينتظر إطلاق سراحه بعملية من خارج، بل خطّط لعملية خطف جندي "إسرائيلي" وهو في السجن، قبل أكثر من ستّ سنوات، من خطف حماس للجندي جلعاد شاليط عام 2006. خطّة السنوار في السجن لم تنجح، لكنّ خطّة شقيقه محمد ورفاقه في غزة نجحت في تحريره وأكثر من ألف أسير فلسطيني عام 2011. حملت عملية تبادل الأسرى الشهيرة اسم "وفاء الأحرار”، وهو الاسم الفلسطيني لها، فيما الاسم "الإسرائيلي "للعملية هو "إغلاق الزمن”، وكانت إحدى أضخم عمليات التبادل بين الفلسطينيين والمحتل "الإسرائيلي"، إذ أُطلق سراح 1,027 أسيراً مقابل الإفراج عن جندي "إسرائيلي" واحد، نجحت حماس في إبقائه حيّاً خمس سنوات . 
محاولات اغتيال السنوار 
نجا السنوار من عدة محاولات "إسرائيلية" سابقة لاغتياله فيما ادعى جيش الاحتلال إنه اقترب منه مرات عدة في الأشهر الأخيرة. وتم اختيار السنوار لتزعم حماس بغزة في 2017 ثم لخلافة الشهيد إسماعيل هنية كرئيس للمكتب السياسي للحركة في أغسطس الماضي . 
اعتقله الإحتلال عدة مرات وحكمت عليه بأربع مؤبدات قبل أن يفرج عنه بصفقة تبادل أسرى عام 2011، وعاد إلى نشاطه في قيادة كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحماس)، ثم انتخب رئيسا للحركة في القطاع عام 2017 ومرة أخرى عام 2021.
يعتبره كيان الاحتلال مهندس عملية "طوفان الأقصى " يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي كبدت الکیان خسائر بشرية وعسكرية وهزت صورة أجهزته الاستخباراتية والأمنية أمام العالم . 
المولد والنشأة
ولد يحيى إبراهيم حسن السنوار في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1962 في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة، نزحت أسرته من مدينة مجدل شمال شرقي القطاع بعد أن احتلها الكيان الاسرائيلي عام 1948 وغيرت اسمها إلى "أشكلون" (عسقلان).
تلقى تعليمه في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، قبل أن يلتحق بالجامعة الإسلامية بغزة ويتخرج منها بدرجة الباكالوريوس في شعبة الدراسات العربية.
نشأ في ظروف صعبة وتأثر في طفولته بالاعتداءات والمضايقات المتكررة للاحتلال الإسرائيلي لسكان المخيمات.
تزوج في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 من سمر محمد أبو زمر، وهي سيدة غزية حاصلة على ماجستير تخصص أصول الدين من الجامعة الإسلامية بغزة، له ابن واحد يدعى إبراهيم . 
النشاط السياسي
كان ليحيى السنوار نشاط طلابي بارز خلال مرحلة الدراسة الجامعية، إذ كان عضوا فاعلا في الكتلة الإسلامية.
شغل مهمة الأمين العام للجنة الفنية ثم اللجنة الرياضية في مجلس الطلاب بالجامعة الإسلامية بغزة، ثم نائبا لرئيس المجلس ثم رئيسا للمجلس.
ساعده النشاط الطلابي على اكتساب خبرة وحنكة أهلته لتولي أدوار قيادية في حركة حماس بعد تأسيسها عام 1987.
أسس مع خالد الهندي وروحي مشتهى -بتكليف من الشيخ أحمد ياسين- عام 1986 جهازا أمنيا أطلق عليه منظمة الجهاد والدعوة ويعرف باسم "مجد". وكانت مهمة هذه المنظمة الكشف عن عملاء وجواسيس الاحتلال الإسرائيلي وملاحقتهم، إلى جانب تتبع ضباط المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وما لبثت أن أصبحت هذه المنظمة النواة الأولى لتطوير النظام الأمني الداخلي لحركة حماس . 
الاعتقالات وحياة السجن
اعتقل لأول مرة عام 1982 بسبب نشاطه الطلابي وكان عمره حينها 20 عاما، ووضع رهن الاعتقال الإداري 4 أشهر وأعيد اعتقاله بعد أسبوع من إطلاق سراحه وبقي في السجن 6 أشهر من دون محاكمة. في عام 1985 اعتقل مجددا وحكم عليه بـ8 أشهر.
في 20 يناير/كانون الثاني 1988، اعتقل مرة أخرى وحوكم بتهم تتعلق بقيادة عملية اختطاف وقتل جنديين إسرائيليين، وصدرت في حقه 4 مؤبدات (مدتها 426 عاما).
خلال فترة اعتقاله، تولى قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى "حماس" في السجون لدورتين تنظيميتين، وساهم في إدارة المواجهة مع مصلحة السجون خلال سلسلة من الإضرابات عن الطعام، بما في ذلك إضرابات أعوام 1992 و1996 و2000 و2004.
تنقل بين عدة سجون؛ منها المجدل وهداريم والسبع ونفحة، وقضى 4 سنوات في العزل الانفرادي، عانى خلالها من آلام في معدته، وأصبح يتقيأ دما وهو في العزل.
حاول الهروب من سجنه مرتين، الأولى حين كان معتقلا في سجن المجدل بعسقلان، والثانية وهو في سجن الرملة، إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
في سجن المجدل، تمكن من حفر ثقب في جدار زنزانته بواسطة سلك ومنشار حديدي صغير، وعندما لم يتبق سوى القشرة الخارجية للجدار انهارت وكشفت محاولته، فعوقب بالسجن في العزل الانفرادي.
وفي المحاولة الثانية في سجن الرملة استطاع أن يقص القضبان الحديدية من الشباك، ويجهز حبلا طويلا، لكنه كشف في اللحظة الأخيرة.
تعرض لمشاكل صحية خلال فترة اعتقاله، إذ عانى من صداع دائم وارتفاع حاد في درجة الحرارة، وبعد ضغط كبير من الأسرى أجريت له فحوصات طبية أظهرت وجود نقطة دم متجمدة في دماغه، وأجريت له عملية جراحية على الدماغ استغرقت 7 ساعات.
حرم خلال فترة سجنه من الزيارات العائلية، وصرح شقيقه غداة الإفراج عنه أن الاحتلال منعه من زيارة يحيى 18 عاما، كما أن والده زاره مرتين فقط خلال 13 عاما . 
السّنوار صانعاً لصورته
لم يكن السنوار مستهلكاً فقط للثقافة "الإسرائيلية"، بل كان منتجاً من خلال رواية هرّبها من السجن بطرق ملتوية تحت عنوان: "الشوك والقرنفل”. وذلك علاوة على كتب وترجمات أخرى ذات علاقة بالفكر الصهيوني وأجهزة الأمن "الإسرائيلية".
 هذه هي شبه سيرة ذاتية، كتبها السنوار على شكل رواية واقعية، لحياة طفل لاجئ، نشأ في المخيّم، وشهد الأحداث كلّها، من نكبة 1948، إلى نكسة 1967، إلى إحباط 1973، إلى بدء المقاومة بالحجارة والمقلاع، فالعمليات الاستشهادية. تنبني الرواية على سرد حياة "أحمد” وقصّة أسرتين واحدة في غزة وأخرى في الخليل. تتوزّع شخصيات الرواية حول ثلاثة: الفتحاويّ "محمود” (شقيق الراوي) الذي يؤمن بأنّه يمكن تحصيل الحقوق بالمقاومة السلمية والمفاوضات مع العدوّ. والحمساويّ "إبراهيم” (ابن عمّ الراوي) الذي أسّس الجناح العسكري، وبدأ بعمليات المقاومة المسلّحة. وأخيراً العميل "حسن” (ابن عمّ آخر للراوي). وهذه الشخصيات الثلاث تختصر المشهد الذي يرى السنوار العالم الداخلي من منظاره . 

لقد حُرم نتنياهو من متعة القضاء على عدوه اللدود بضربة دقيقة صنعتها ماكينة الذكاء الاصطناعي، فيزداد غروراً على غرور. ولم يترك السنوار لعدوه فرصة اختيار الزمان والمكان لرحيلٍ كان قد أصبح مرجّحاً بشدّة منذ طوفان الأقصى. لقد ذهب رجل الأسرار بالطريقة التي يتمناها هو، لا بالمشهد الذي يهواه نتنياهو

المصدر : صحيفة صدى الشعب - فايز الشاقلدي 
تصميم و تطوير