ثقافة العطر في الإسلام: عشق وطهارة وسير عجيبة
كتاب عالم الاجتماع وأستاذ الفلسفة التونسي، عبد الوهاب بوحديبة، "ثقافة العطر في الاسلام"، الصادر عن "دار الجنوب للنشر" باللغة الفرنسية، هو بانوراما سيرة ذاتية تتعلّق بما تركته القيروان مسقط رأس المؤلّف من ذكريات حول علاقة أسرته بالعطور. وكذلك علاقته بالكتب التي تطرّقت إلى هذا المبحث في التراث العربيّ والإنسانيّ. وتشعّب الحقول المعرفية التي عالجت مسألة الروائح وعلاقتها بالصحة النفسية والبدنية للإنسان. وهو أيضاً نافذة سوسيو - ثقافية لفهم كيفيّة اهتمام العرب وسائر الشعوب بهذه المواد التي تشكّل مصدر سعادة.
العطر مفتاح لتقصّي معارف وطفولة المؤلّف
في فصل "ما يجب أن تعرفه"، يتحدّث عبد الوهاب بوحديبة عن طريقته في تجميع مواد الكتاب من مصطلحات وتورايخ حول العطور، وهي ذات منحى لساني لغوي، وكذلك منحى نفعي يتعلّق بالبستنة وكيفية الاعتناء بالنبات للحصول على روائح مرغوبة. كما يتطرّق الباحث إلى تعلّق الخرافات والأساطير بالقدرة الخارقة لبعض العطور في كتب التراث والمرويّات المتناقلة عبر الأجيال. تنويعات كثيرة طرأت على كيفية عبور هذه المعلومات وبلورتها بحسب حاجة الشعوب إليها. وفي الأثناء يمجّد فضائل "العطر"، كما يقول، من دون أن يغفل صعوبة تعريف الأعشاب العطرية والخلطات السحرية المستمدّة من الحيوان والحجر، ومن دون أن يغفل أيضاً غنى الحضارتين اليونانية واللاتينية بالمعاجم الزاخرة بالعلوم الطبيّة التي نهل منها العرب.
يتحدّث المؤلف كذلك عن الجانب الذاتي في عمله قائلاً إن: "هذه المجموعة من المعلومات استقيتها من الذكريات أو التجارب"، ويضيف أن هذه الخواطر تذكّره بجدته لأمّه التي كانت خبيرة في صنع الندّ. وتعود أصولها إلى العثمانيّين حيث إنّ أباها كان مملوكاً تركياً أهدي إلى أحمد باي، وبذلك عاشت في قصور البايات قبل أن تتزوّج من قائد القيروان. ويفسّر شغف جدّته بهذه الصنعة التقليدية التي تشير إلى حسّ مرهف وذوق عالٍ. ويتحدّث بشغف كيف انتقل حبّ الزهور العطرية والرياحين إلى والدته. ويذكر أنه كان طفلاً يرى كيف تنمو هذه النباتات وتزهر وتتبع الشمس.
ويقول في الكتاب: "كانت هذه تجاربي الأولى حول الموت والحياة والزمن والعطور، وفي كلمة واحدة، الطبيعة" مضيفاً "تعلّمت في هذه المدينة (القيروان) في سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي هبة الحياة. وأيّ بهجة في عشقها واحترامها". ويقول "وتعلّمت أيضاً أنه مهما كانت اليد التي تعتني بالنبتة متواضعة فإنّ الحياة للجميع".
علاقة العطر بالذوق الشخصي
يتحدّث بوحديبة عن علاقة العطر بالذوق الشخصي، ويربط بين المقولة التعليمية اللاتينية التي سادت في القرون الوسطى "الأذواق والألوان لا تناقش"، وبين اللذة التي تسري في النفوس، ويرى أنها عملية تجريدية بحتة خاضعة لأهوائنا. ويعلّل ذلك ببعض مواقف الفلاسفة وعلى رأسهم كانط وفان فليس، ويرى أن فرويد تحدّث عن ذلك في كتابه "قلق في الحضارة"، ويذهب المؤلف إلى أنّ العطور تلطّف أهواءنا.
ويربط المؤلّف بين وظيفة التنفّس وبين هذا العالم المليء بالروائح الطيبة أو الرديئة. وأنّ أنوفنا تجذبنا إلى ما يمكن أن نستعمله أو ما يغرينا. ويقول إنّ: "هذه المعلومة الدائمة والمستمرة هي تقرير معاش داخلياً في تجربة لا نهائية ولا تتوقّف أبداً، ولا نعيها دائماً وعياً تامّاً. بل إنّ وعينا يمسك "المتبخّر"، ويحصر ويثبّت "العابر"، ويخلق في الآن نفسه الرابط الاجتماعي الذي نسبله عليه بفضل الحب".
يسترسل المؤلّف في حديثه عن الوظيفة الثقافية لحاسة الشمّ، إضافة إلى الوظيفة الفيزيولوجية التي تعمل كسند لكينونتنا في هذا العالم، وهي أيضاً إحدى طرق العيش المشترك، ويصفها بـــ "المحور الكبير لوعينا الجمعيّ"، وهو ميراث وتعلّم. ويطرح سؤالاً، هل سوسيولوجيا الرهافة مسألة استعجالية؟ وهي من أكثر المسائل عمقاً في عصرنا، حيث إنّ ثقافة استنشاق الروائح تنبع من هذه الحاسّة نفسها.
المقاربة الأنثروبولجية للعطر
يقول عبد الوهاب بوحديبة إنه: "بوضعنا العطر في المجتمعات الإسلامية موضوعاً لعملنا الراهن، فإننا ندرك أنّ السوسيولوجيا ترشح بالتموقع في عمق المعيش. أين يجري التحام حقلين فسيحين ومفخّخين هما الحلميّ والاجتماعي، حيث يكوّن التاريخي والتخيّلي لحمة للوجود الفردي وتمثّل لذلك في الأثر الحضاري".
ويرى أن عمله هذا ليس تأريخاً، على الرغم من أنّ المؤرّخين كانت لهم "مساعدة ثمينة". إنه رؤية موسّعة تتخلّل التأريخ الذي هو امتياز لإثراء المقاربة الأنثروبولوجية. ويضيف "نحن نعلم أنّ المجتمعات تثمّن ماضيها، وهي تنمّي وتدمج باستمرار تجاربها وتبقى "الرائحة" المنسية الكبرى. إلّا أنّ وظيفة الأنثروبولوجيا هي المعرفة بأن الحاضر صنع من القطيعة والتواصل والاختراع، وليس من شيء جاء من العدم. وهي... التقدّم وتثبيت لحظات من الماضي وتواصلها".
ومن هذا المنطلق ربط المؤلف في هذا الكتاب بين العطر في المدوّنة البشرية وفي المدوّنة التي سماها السماوية. حيث ارتبط التعطّر بمفهوم الطهارة والتقرّب للإله وتذكّر الجنة وروائحها الزكية... فالعطور تنتمي إلى السماوي وليس إلى الشرّ، وهي فكرة عالجها الإنثروبولوجي جان بيير ألبير.
ثقافة العطر وفنّ العيش
نظراً لعلاقتها بالطهارة، وباعتبار عملية التعطّر تمسّ الروح والجسد معاً. فهي تنعش النفس التوّاقة إلى الجمال والنقاء، وتمنح الجسد مساحة للتمتّع عبر الحواس بهذه النعم الأرضية التي مثّلت محوراً أساسياً عن نموذج الإنسان الأكثر قبولاً وتقرّباً من السماء، فالرائحة الطيبة مفتاح القلوب. يذكر السيوطي والقاضي في "دقائق الكنز" أنّ الوردة البيضاء انبثقت من عرق النبي محمد، بينما الحمراء من الملاك جبريل، والصفراء من أجنحة البراق. ورغم أنّ هناك من فنّد هذه الحكايات العجيبة، إلّا أنها بقيت حيّة عبر العصور.
ويعطي المؤلف مساحة في كتابه للحديث عن الورد في الشعر العربي من خلال فصل "الوردة والقصيدة"، فيقول إنّ سرّ الوردة مع عطرها. ويستشهد بالقول اللطيف "من كان له ثمن رغيفين، فليشتر رغيفاً ووردة". بينما يذكّر القارئ بمن كتبوا عن الرياحين والزهور كبشّار بن برد والشريف الرضيّ وابن المعتز، وابن الرومي في "حرب النرجس والورد".
وعن علاقة الورد بالفكر يشرح المؤلف ما كتبه عمر الخيام الذي يصفه بمهندس الروح، وكذلك عند ابن الفارض والمتصوفة. ويتحدث المؤلف عن رائحة القهوة ورحلة هذا المشروب في البلاد الإسلامية، ويضيف إليها شراب الورد. ويتحدّث عن تجارة البهارات والبخور تحت خانة "الرائحة"، من دون إغفال طرق القوافل ونقاط العبور والبلدان التي تصدّر هذه المواد المنعشة (البهارات).
ويفسّر الروائح الساخنة والباردة كالمسك والعنبر والصندل والزعفران والكافور... ويفسّر كلمة الانشراح لربطها بالقلب والنفس، ويرى أنّ هاتين العبارتين في المدوّنة الضخمة للطبّ العربي كانتا تعبّران عن معنى التهوئة، ويضيف إليها الراحة والسرور وحسن الغذاء، وهو ما ذهب إليه الطبيب ابن الجزار القيرواني والعالم ابن سينا.