طبيبٌ حُر؛ وكيانٌ مريض

{title}
أخبار دقيقة -
طبيبٌ  حُر؛ وكيانٌ مريض

أطلق الكيان الصهيوني يوم أمس سراح د.محمد أبو سلمية مدير مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة عقب سبعة أشهر من الاعتقال، وفي الحقيقة أن هذا الخبر ليس خبراّ عادياً حول إطلاق سراح أسير، بل إنه خبرٌ يحمل أبعاداً كثيرة، لاسيما إذا نظرنا لطبيعة الجدل الدائر في الكيان الصهيوني منذ لحظة وصول أبو سلمية لقطاع غزة.

من هذه الأبعاد أن د. أبو سلمية طبيب، ليس رجل سياسة وليس رجلاً عسكرياً، فلماذا يُحدِث أمر الإفراج عنه كل هذه الضجة، وتقاذف التهم، والمباشرة بالتحقيق لكشف المسؤول عن هذه الواقعة؟!
لماذا تحدث كل هذه الضجة؛ لولا أن القطاع الصحي وفي مقدمته الأطباء، والمشافي، والمراكز الطبية، وطواقم الإسعاف والدفاع المدني، بل حتى عربات الإسعاف هم جميعهم مستهدفون بشكل مباشر، وهو ما يذكرنا بتعمد استهداف المشافي منذ بداية العدوان، المعمداني فالشفاء فالنصر فالرنتيسي فالأوروبي..الخ، ويذكرنا أيضاً باستهداف الأطباء وتحديداً المهرة منهم، وليس استشهاد د.عدنان البرش رحمه الله منا ببعيد، وكذلك كوادر الإسعاف، بل حتى إداريي المشافي، وكل ما يرتبط بالمنظومة الصحية في القطاع.

وفي بعدٍ آخر ذي صلة نلاحظ أيضاً أن الغضب من قرار الإفراج لم يقتصر فقط على متطرفي الحكومة والسياسة الإسرائيلية، بل أنه شمل أيضاً رموز وأقطاب اليسار والمعارضة كـ "بيني غانتس" الوزير المستقيل من حكومة الحرب في حزيران الماضي، و"أفيغدور ليبرمان" زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اللذان وصفا هذا القرار بالخطأ الأخلاقي والعملي والأمني، ما يؤكد حالة الإجماع على قتل الفلسطينيين وإبادتهم، واستهداف أسباب نجاتهم من كوادر ومنشآت ومعدات، وأن "فناء" الفلسطيني أينما كان هو الخط العريض الذي يسطِّر صهاينةُ اليمين و اليسار وكل تفرعاتهما، يُسطِّرون تحته كل أسباب وتفاصيل "وجودهم"، وإلا مالذي يوجعهم إلى هذا الحد من إطلاق سراح "طبيب"؟!

وبعيداً عن تفاصيل السياسة الإسرائيلية وتعقيداتها، نكتفي في هذه المساحة أن نقول أن الإجماع "الإسرائيلي" إذا كان محققا وثابتاً فيما يتعلق بحتمية زوال الفلسطيني كسبب مانع لفناء الكيان الصهيوني، فإن هذا الإجماع لا يعني بحال الإجماع على الوسائل والأدوات لتحقيق هذه الغاية، وهذا ما يفسر التباين بين سياسة التيارين المتنافسين (اليمين و اليسار)، وما المواقف التي صدرت عن المعارضة إزاء إطلاق سراح أبو سلمية وانسجامها مع مواقف الإئتلاف الحاكم؛ إلا اعتراضاً على المساس بالمبدأ؛ وليس تماهياً سياسياً مع اليمين المتطرف، أو ما بات يسمى "اليمين الجديد".

وإذا كنا فيما سبق قد تناولنا مواطن الخلاف والوفاق بين التيارات السياسية المتنافسة داخل الكيان الصهيوني، فإن بُعداً آخر لا يقل أهميةً وخطورةً طفا على السطح بعد واقعة الإفراج عن الدكتور أبو سلمية، هذا البعد الذي يقودنا للتركيز حول المسؤول عن هذه الواقعة، ففي مشهدٍ تعود فيه المحكمة العليا في الكيان الصهيوني للواجهة من جديد خلال فترة قصيرة جداً بعد إلغاء قرار الحكومة المتعلق بإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ومنع عرض القانون موضوع الإلغاء على القرائتين الثانية والثالثة، تعود هذه المحكمة لتحدي الحكومة من جديد فتصدر قراراً بالإفراج عن أبي سلمية ورفاقه بعد التماسٍ قدم لها، ثم تستجيب لقرارها مصلحة السجون وتنفذه، وتتذرع تارةً بالقرار، وتارةً باكتظاظ السجون وبأن المصلحة كانت قد بلغت الحكومة غير مرة عن مسألة الاكتظاظ، لكنها لم تكترث، ولسنا بحاجة للتأكيد على أن الدافع خلف هذا القرار وتنفيذه ليس على الإطلاق دافعاً إنسانياً، وليس اجتهاداً في تحقيق العدالة.

أما جهاز الشاباك فينكر فعل مصلحة السجون، ويتنصل من مسؤوليته عن الواقعة، ودعوات حكومية ومعارضة لإقالة ومحاكمة رئيس الجهاز، مع كل ما رافق ذلك من اتهامات بالجملة للحكومة حتى من قبل وزرائها المنتمين للأحزاب الخمسة الأكثر تطرفاً.

وبغض النظر عن السبب؛ فإن مسألة إطلاق سراح الدكتور محمد أبو سلمية بحد ذاتها مدعاة للوقوف على حجم وعمق الانقسامات التي بدأت تطال حتى الأجهزة الأمنية داخل الكيان، الأمر الذي يمكن اعتباره سابقة خطيرة في تاريخ هذه المؤسسات،  نحن هنا في صدد قرار من محكمة معروفة بتاريخها المعارض لسياسة نتنياهو وحكوماته المتعاقبة، وتنفيذ هذا القرار مباشرةً من قبل مصلحة السجون من دون العودة لجهاز الشاباك أو وزارة الأمن القومي، ونحن أيضاً في صدد مفاجأة طالت كل أعضاء الحكومة بما فيهم رئيسها ووزير دفاعه، بعد وصول أبو سلمية لقطاع غزة عبر كل الحواجز من دون اعتراض، وعلمهم بالأمر فقط عبر وسائل الإعلام!!

بالإضافة للتخبط، والفوضى، وانفراد مؤسسة بالقرار بالرغم من كونها تتبع لمؤسسات أكبر منها إدارياً ومركزياً، لا بل تجاوزها حالة الطوارئ التي فرضتها الحرب وإصرارها على أنها الجهة الأمنية الوحيدة المناط بها تنفيذ هذا القرار، بالإضافة لكل ما سبق أكرر أننا نتحدث هنا عن ما يمكن اعتباره "سابقة"، فالكيان معروف وفقاً لسياسة الخطوط العريضة التي تحدثنا عنها بالفقرات السابقة بأن أقطابه عادةً ما تُنحي الخلافات جانباً ومؤقتاً في حال تعرضه لخطرٍ خارجي يمس هذه الخطوط، ومعروف أيضاً أن الحالة الوحيدة التي تبدي فيها المكونات السياسية للكيان الصهيوني "وحدة الصف" هي أيضاً هذه الخطوط أو الخطر الذي يهدد "إسرائيل"، وهو ما حدث بالفعل في بداية العدوان في أكتوبر الماضي عندما انضمت أحزاب المعارضة "الإسرائيلية" للإئتلاف الحاكم في الكنيست، الأمر الذي بررته المعارضة آنذاك بتعزيز وحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية، قبل أن تعود وتنسحب من الإئتلاف، بسبب فشل الحكومة في إدارة الحرب، وملف المحتجزين، وملف تجنيد الحريديم.

يبدو أن هذه المعركة ما زالت تحمل الكثير من المفاجآت والتغيرات على الساحة "الإسرائيلية"، التي لم نكن نعوِّل كثيراً في معادلة النصر والتحرير على انهيارها، على الأقل ليس على المدى القريب أو المتوسط، وإنما إن كنا نعوِّل فقد كان ذلك على المدى البعيد، في حين تشي الوقائع المتلاحقة ليس فقط عن انقسامات حادة بين ساسة الكيان الصهيوني فيما يتعلق بالمبرر الوحيد الذي يمكن أن يجمعهم سياسياً، بل عن انقسامات طالت حتى مجلس أركان الجيش، واليوم نحن نتحدث عن انقسامات شديدة داخل مؤسسات الأمن الداخلي والقومي، وضعف شديد في مركزية الحكومة، وانهيارٍ بادٍ في منظومة الاستخبارات ومنظومة الاتصال بين مؤسسات الكيان وفي هرمية التسلسل، وفقدان مركزية القرار، ومعركة قانونية وقضائية لا يبدو أنها ستنتهي، ومناكفات شديدة وانشقاق بين المؤسسات.

لكل ما سبق يبدو أن قرار الإفراج عن الدكتور محمد أبو سلمية هو أبعد بكثير من مجرد قرار إطلاق سراح، ولا أظن أنه بات من ضروب المبالغة الآن إذا قلنا أن "فوضى المؤسسات" داخل الكيان الصهيوني باتت تعتبر بحق مِعوَلُ هدمٍ حقيقيٍ وجاد وشرس، ولم تعد امكانية انهيار "دولة الاحتلال" من الداخل  أمراً بعيداً أو أقربَ للمستحيل.

المحامية والكاتبة مرام النابلسي
تصميم و تطوير