حتى تطمئن قطة الجنوب
أخبار دقيقة -
مرام النابلسي - محامية وكاتبة
أذكرُ في طفولتي عندما كانت السماءُ تُعلِنُ صراحةً لونَها الأحمرَ؛ كان الكِبارُ يخبروننا روايتَين مختلفتَين في تبرير هذا اللون. الروايةُ الأولى كانت تقولُ أنَّ هذا اللونَ يُعبِّرُ عن "غضبِ الرب"، وأمَّا الثانيةُ، والتي كنتُ أتوقَّفُ عندها طويلاً، وإنما بصمتٍ؛ فتقولُ أنَّ هذا "دَمُ الشـهـداء"، وأنَّ السماءَ اصطبغت بلونِه.
لم أكنْ أتساءلُ عن الكيفية، ولم أحاولْ يومًا "مَنْطَقَةَ" هذا الأمرِ غيرِ الممكنِ علميًّا؛ بالشكل الذي يُعبِّر عنه الأطفالُ بقولهم: "طيب، كيف؟!" كعادتِهم في محاولةِ فهمِ كلِّ شيء، وهو الأمرُ الذي أصبحنا ننعته عندما كبرنا بـ "المنطق".
مساءَ اليومِ، شردتُ بلونِ السماءِ الأحمرِ، وقد رافقَه جوٌّ حارٌّ خانقٌ، لا شتاءَ فيه ولا حتى نَسمةٌ عليلةٌ، رغمَ أننا في تشرين؛ تشرينَ الثاني لا الأوَّل! صرفتُ نظري عن السماءِ لأُقلِّبَ الأخبار، فرأيتُ قطةً في جنوبِ لبنانَ، تجلسُ جلسةً توحي بالهدوء، لكنَّها في الحقيقةِ جلسةٌ حذرةٌ متوجسةٌ، لا هادئة، تعلَّمتُ أن أُميِّزَها بسببِ عشرتي الطويلةِ جدًّا مع القطط، كان صوتُ "الزنانةِ" يملأُ سماءَ الجنوبِ من فوقِ رأسِها بلا توقُّف.
"صوتُ الزنانةِ" الذي يكفي – لما بعد الكفاية – لأنْ يبُثَّ الذعرَ وعدمَ الطمأنينةِ في قلبِ كلِّ حيٍّ، جعلَ أهلَ الضفةِ الغربيةِ قبل أيام، يتندرونَ على حالِهم، بينما يُقارنون سماءَهم الهادئةَ نسبيًّا سابقًا، وسماءَهم اليومَ، وقد بدأتِ الزناناتُ تُعلِنُ عن ذلك الوجودِ العبثيِّ الكريهِ بشكلٍ لا يمكنُ نسيانُه أو تناسِيه، ولا حتى للحظة.
الزنانةُ التي لم تُغادِرْ سماءَ غزةَ منذ خمسٍ وعشرينَ سنةً، حتى إنني أُخالُ أنَّ كلَّ مواليدِ غزةَ منذ عامِ 2000، قد اعتادوا صوتَها، وكأنَّهُ جزءٌ لا يتجزَّأ من حياتِهم، نهارِهم وليلِهم، صَحوِهم ونومِهم، وأنَّ الأطفالَ في غزةَ ربما باتوا يظنُّون أنَّ صوتَها اللعينَ ظاهرةٌ كونيةٌ طبيعية، وربما لا يسألون عن "منطقيَّةِ" وجودِها، أو أسبابِ تحليقِها، أو ماهيَّةِ صوتِها اللعين.
نعم؛ هي ذاتُها التي تجوبُ اليومَ سماءَ الضفةِ وجنوبَ لبنانَ، وأيَّ سماءٍ تريد، مُخترقةً لونَها الأزرقَ ولونَها الأحمر، وقد تُقرِّرُ في أيِّ لحظةٍ أن تُرسِلَ في طلبِ شقيقاتِها حاملاتِ الصواريخِ من كلِّ نوعٍ وحجمٍ، شقيقاتِها من كلِّ أبٍ تبنَّى الكيانَ اللقيطَ، يُطعِمُه ويكفُلُه، ويُفرِدُ أمامَه قائمةَ الألوانِ التي يرغبُ في أن تصطبغَ سماؤنا بها (الفوسفور الأبيض، البرتقالي المشتعل، الناري الملتهب، الأسود، الدخاني).
كبرتُ بما فيه الكفاية، كي "أُمنطِقَ" لونَ السماءِ بعد كلِّ عدوانٍ، حيثُ تفاعلُ النيرانِ مع الهواءِ وذرَّاتِ العناصرِ الكيميائيةِ المختلفةِ ونوعِ المادَّةِ المحترقةِ... إلخ، وإن كنتُ لا أستطيعُ تحليلَ الأمرِ كما يفعلُ المختصون، إلا أنني فهمتُ ذلك بالقدرِ المطلوبِ لغيرِ المختصين.
لكنني رغم ذلك الفهم؛ لا أزالُ حتى اللحظةِ أقفُ أمام "دمِ الشهداءِ" في كلِّ حُمرةِ سماءٍ أراها، لا أبحثُ عن تعليلٍ أو تفسيرٍ لما كانت تُخبرني به جدتي "أمُّ الشهيد"، من دون تعقيبٍ، لأنني لم أسألْها يومًا، فأنا أُصدِّقُها، وهي صادقةٌ من دون منطقٍ، واثقةٌ من دون دليلٍ، وقد أيقنتُ منذ ذلك الحين أنَّ "دمَ الشهداء" لن يكتفيَ بصبغِ السماءِ بلونِه، وأنَّهُ سيمطرُ لا محالة غضبًا وثأرًا ولعنةً لا تنفكُّ حتى ترجِعَ لسمائنا زرقتُها، وحتى تختفيَ الزنانةُ، وحتى يُدرِكَ أطفالُ فلسطينَ أنَّها مارقةٌ كصاحبِها اللقيطِ، وحتى تهدأَ قطةُ الجنوبِ وتطمئن.






