من غرناطة إلى القدس… الغدر لا يشيخ ونتنياهو آخر الورثة

{title}
أخبار دقيقة - كتب ـ أ.د. هاني الضمور 
 في صباح الإثنين الثاني من يناير عام 1492، أسلمت غرناطة أنفاسها الأخيرة، وسلمت مفاتيحها في اتفاقية مهيبة من ثمانين بندًا، تحفظ للمسلمين دينهم وأعراضهم وبيوتهم ومساجدهم وطقوسهم وحتى أكفان موتاهم. أقسمت الملكة إيزابيلا وزوجها وكرادلتها أمام العدول، وحلفوا على الإنجيل، ثم أرسلوا العهد إلى البابا في روما ليوقّعه بصفته المرجع الأعلى للكاثوليك. توقيع فوق توقيع، وقسم فوق قسم، وكأن الحديد قد صيغ ليكون أمانًا.

لكن الحديد صدئ، واليمين كاذبة. ما إن استقر الحكم، حتى أرسلت إيزابيلا إلى البابا تستأذنه في الغدر، فجاءها الغفران مختومًا من روما. ثم انقضّت كذئب على القطيع، ففتحت محاكم التفتيش، وأضرمت النيران في أجساد المسلمين، وقطعت الألسنة، وهدمت المساجد، وأجبرت الناس على التنصير، حتى صار مجرد الوشاية بأنك تمسك بالمصحف جريمة تحرقك حيًّا.

هذه القصة ليست سطرًا في كتاب التاريخ، بل هي مرآة تعكس حاضرنا. اليوم، حين يخرج بنيامين نتنياهو بوجهه المليء بالغطرسة، ملوّحًا بمشروع "إسرائيل الكبرى”، مهددًا فلسطين والأردن ومصر وسوريا ولبنان، فإنه لا يبتكر شيئًا جديدًا. إنه فقط يعيد صياغة غدر الأمس بلغة الحاضر، مستندًا إلى انقسام عربي، ودعم أمريكي أعمى، وإعلام عالمي صامت أو متواطئ.

نتنياهو لا يتحدث كسياسي مسؤول، بل كزعيم فقد عقله، يتعامل مع المنطقة وكأنها لوحة شطرنج، ومع الشعوب وكأنها أحجار بلا روح. لكنه ينسى أن الشعب الفلسطيني، شعب الجبارين، لم ينكسر منذ أكثر من قرن، وأن الاحتلال، مهما طال، يولّد مقاومة، وأن إرادة الحرية تتخذ ألف شكل: من حجارة الانتفاضة، إلى سكاكين القدس، إلى طوفان الأقصى.

الأردن، بخط دفاعه الممتد على الضفة وبوصايته على المقدسات، ليس مستهدفًا في الخيال السياسي لنتنياهو فحسب، بل في صلب مشروعه. وأي تهديد لفلسطين هو تهديد مباشر لعمان، كما أن أي خطر على غزة هو مساس بالقاهرة ودمشق وبيروت والرباط ومسقط. الأمن القومي العربي، مثل الأواني المستطرقة، إذا اخترق في موضع واحد تدفق الخطر إلى الجميع.

التاريخ يقول لنا بوضوح: الأعداء لا يرقبون فينا إلًّا ولا ذمّة. من غرناطة إلى فلسطين، العهود تُوقَّع لتُنكث، والاتفاقيات تُبرَم لتُستغل، والغفران الكاذب يُمنح للمجرم قبل أن يبدأ جريمته. لذلك، الرد على نتنياهو لا يكون ببيانات الشجب وحدها، بل بخطة شاملة تعزل إسرائيل دوليًا، وتفكك مشروعها من الداخل، وتدعم المقاومة على الأرض سياسيًا وماديًا وإعلاميًا.

هذه ليست دعوة للحرب المفتوحة، بل دعوة لليقظة الكاملة. فالغدر حين يأتي لا يطرق الباب، بل يتسلل من النوافذ التي فتحناها بالثقة الزائفة. ونتنياهو اليوم، مثل إيزابيلا بالأمس، يحاول أن يبيعنا أمانًا مؤقتًا قبل أن يفتح أبواب الجحيم. والفرق الوحيد بين الماضي والحاضر أننا هذه المرة نعرف القصة قبل أن تنتهي، ولدينا خيار أن نكتب فصلًا جديدًا لا ينتهي بمفاتيح تُسلَّم، بل بأرض تُحرَّر.

تصميم و تطوير