السمردلي يكتب: السياسة لا تُرتجل فتعلّموا أبجدياتها قبل أن تتكلموا وتصنعوا الفتن

نحن نحتاج إلى سياسيين يعرفون متى يتكلمون، وماذا يتكلمون، ولماذا يتكلمون، لأن السياسة ليست مجرد كلامٍ في الهواء، بل قرار مسؤول يحمل أوزار الوطن والمواطنين ولتعزيز منظومة العمل السياسي التي ضمن مخرجاتها جلالة الملك عبدالله الثاني في رؤيته التحديثية للدولة، لا بد أن نعيد ترتيب الأولويات، ونفتح نقاشًا وطنيًا جادًا حول سؤال مفصلي من يحق له أن يتصدر العمل السياسي؟ وهل يكفي مجرد الرغبة أو الشعبية أو الحضور الخطابي لاعتلاء منصات القرار؟ إن السياسة، كما نراها اليوم، أصبحت في كثير من الأحيان ساحة مفتوحة، يتحدث بها البعض باسم الناس، يطلق تصريحات عبثية غير مسؤولة ويقترح حلولًا عشوائية، ويصدر مواقف خطيرة قد تجر الدولة والمجتمع إلى مشكلات عميقة، دون أن يدرك حجم التأثير ولا عمق المآلات.
لا يمكن القبول أن تُختصر السياسة في ظهور إعلامي أو في خطبة شعبوية أو موقف سريع تحت ضغط المشهد لأن السياسة، قبل أن تكون فعلًا عامًا، هي علم قائم بحد ذاته، وتجربة تراكمية، ومعرفة دقيقة بديناميكيات الدولة والمجتمع وموازين القوى والخطر لا يكمن فقط في غياب المؤهلات لدى بعض من يتصدرون المشهد، بل في الاعتقاد بأن التأهيل السياسي ليس ضروريًا، وأن الولاء أو الحماسة تكفيان لصناعة القيادة وهذا أخطر ما يمكن أن يُمارس بحق الوطن.
إن الجهل السياسي لم يعد يُشكل مجرد عثرة، بل أصبح تهديدًا مباشرًا لثقة الناس بالمؤسسات، ولقدرة الدولة على النهوض بتطلعاتها فالسياسي غير المؤهل لا يقع فقط في الأخطاء، بل يُرسّخ الفوضى، ويُضلل الرأي العام، ويشوّه معنى العمل العام، وقد يُحوّل الساحة الوطنية إلى مسرح من الفوضى والمجاملات والتجريب، حيث تُدار مصالح الناس بمزاجية لا تستند إلى وعي أو علم أو مصلحة عليا ولهذا، فإننا لا نبالغ إن قلنا إن أخطر ما تواجهه الدولة الحديثة ليس التحديات الاقتصادية أو الضغوط الإقليمية، بل الجهل المقنّع بالثقة الزائفة، والتصّدر غير المبني على الكفاءة.
إذا كنا نؤمن فعلاً بالإصلاح، وبتجديد الدماء السياسية، فلا بد أن نبدأ من بناء قاعدة معرفية صلبة لكل من يريد أن يدخل هذا المجال فلا بأس أن يترشح القائد والمواطن، وأن يطمح الشباب و الناشطين إلى دور سياسي، لكن يجب أن يسبق ذلك مسار من التعلم، والفهم، والتأهيل الجاد ويجب أن نربط بين الطموح السياسي والكفاءة الفكرية، بين الحضور الجماهيري والوعي الحقيقي فالسياسة ليست مكافأة، بل مسؤولية، وكل مسؤول يجب أن يكون أهلًا لحجم ما يطلبه من ثقة وتمثيل.
ولهذا، فإن من أولى الخطوات التي ينبغي اتخاذها على مستوى الدولة والأحزاب ومؤسسات المجتمع، أن يتم إعداد برامج إلزامية للتأهيل السياسي وخصوصا من يقود المشهد لان الضوء مسلط عليه، تشمل فهم الدستور، الإدارة العامة، القانون، السياسات العامة، العلاقات الدولية، آليات اتخاذ القرار، وتحليل الأزمات ومن غير المقبول أن يُدير أحدهم ملفًا سياسيًا وهو لا يميز بين السلطات ، أو لا يعرف الفارق بين القانون واللائحة، أو لا يُدرك كيف تُبنى السياسات العامة وأين تقع مسؤولياته فيها.فكما نُجري اختبارات للمهارات التقنية، ونطلب تراخيص للمهن، ينبغي أن نقرّ باختبار وطني سياسي لكل من يطمح إلى موقع تمثيلي أو مسؤولية عامة لا من باب التعقيد أو التقييد، بل من باب احترام الدولة، وصيانة القرار الوطني من الارتجال والضعف وسوء التقدير.
التعلم ليس عيبًا، بل هو أرقى أشكال الاحترام للذات وللناس فالسياسي الحقيقي هو من يسعى إلى المعرفة باستمرار، ويتواضع أمام الحاجة للتطور، ويُدرك أن الخطأ في السياسة ليس مجرد تجربة فاشلة، بل كلفة وطنية قد ندفع ثمنها أجيالًا أما من يصرّ على الصعود بلا دراية، فهو لا يقود نفسه فقط نحو الفشل، بل يُقحم الوطن كله في دوامة من العبث والانقسام ولذا، فإن الإصلاح لا يبدأ فقط من القوانين ولا من إعادة هيكلة المؤسسات، بل من بناء ثقافة جديدة تحترم التعلم، وتضع التأهيل أساسًا لكل مسؤولية.
إننا بحاجة إلى ثورة وعي سياسي حقيقية، لا تستثني أحدًا، نحتاج إلى سياسيين يفكرون قبل أن يتكلموا، ويتعلمون قبل أن يقرروا، ويُدركون وزن الكلمة، وخطورة القرار، ومسؤولية التمثيل، نحتاج إلى من يرى السياسة بوصفها تكليفًا لا تشريفًا، ومعركة وعي لا استعراضًا شخصيًا، ورحلة تضحية لا طريقًا مختصرًا للمصالح أو المكاسب وحين نصل إلى هذه النقطة من النضج، يمكننا أن نقول إننا بدأنا بالفعل في بناء الدولة القادرة على الصمود والنهوض، مهما اشتدت التحديات.
الجهل السياسي لا يصنع دولة ولا يبني منظومة ولا مؤسسة ولا ينشئ أملًا فهو وصفة للخذلان، وعبىء على ظهر الوطن، ومأزق مستمر يتكرر بوجوه مختلفة أما الوعي، فهو أول الطريق. والعقلية المؤهلة هي جدار الصدّ الأول في وجه أي خطر لذلك، وقبل أن نتكلم في السياسة… دعونا نتعلمها أولًا.
"بالعامية تعلموا أبجديات السياسة لتكونوا بياض وجه وليس سواد وجه”.
الكاتب من الأردن