اغتيال هنية واستهداف شكر.. الدلالات السياسية والتداعيات الاستراتيجية
–ما حدث ليس اختراقاً أمنياً ولا عسكرياً كبيراً، بل قرار استراتيجي سياسي له دلالات وتأثيرات متعددة.
–قادة حماس السياسيون مثل هنية ومشعل لا يحرصون على ترتيبات أمنية كبيرة، لطبيعة عملهم، ولإدراكهم أن عملية تصفيتهم مسألة سياسية، وهو أمر قد يتغير لاحقاً مع وجود قرار إسرائيلي بتصفية قادة الحركة في الداخل والخارج
–الحسابات ما تزال معقدة ومركبة فيما يتعلق بردود الفعل وتداعيات عمليات الاغتيال.
–السؤال ليس فيما إذا كان هنالك رد على العمليتين الإسرائيليتين؛ بل عن حجم الرد والحسابات والأهداف المتعلقة به
معهد السياسة والمجتمع – د. محمد أبو رمان – كانت ليلة الأربعاء أمس عاصفة ودرامية بالمعنى الكاملة للكلمة، ضربت إسرائيل في مكانين مختلفين، لكن ضمن الخط الاستراتيجي نفسه، تخلصت من الرجل الثاني في حزب الله (أو استهدفته وأصابته بقوة في الحدّ الأدنى)، وقضت على أحد رموز المقاومة الفلسطينية، إسماعيل هنية، في قلب طهران، التي باتت تمثّل عاصمة الممانعة، وفي مناسبة أيضًا حساسة تتمثل بحضوره للمشاركة بتنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان.
ثمة سؤالان رئيسيان؛ الأول ما هي دلالات عمليتي الاغتيال أو الاستهداف في بيروت وطهران؟ والثاني: ما هي التداعيات المترتبة على هذه الليلة الصادمة؟
بالنسبة للسؤال الأول؛ فإنّ كثيراً من المراقبين والمحللين ذهبوا إلى وصف ما حدث بـ”الاختراق الأمني”، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكنه ليس بالجديد، فإيران مخترقة أمنياً إلى درجة الاهتراء، ولم تعجز لا إسرائيل ولا أميركا من استهداف قيادات محسوبة على إيران، سواء علماء نوويين، أو عسكريين، أو حتى قيادات في تنظيم القاعدة، ولا أرى أنّ اغتيال هنية أكبر من ذلك، من ناحية أمنية، لأنّ قادة حماس في الخارج، بمن فيهم اسماعيل هنية وخالد مشعل وأبو مرزوق، يعيشون حياة تكاد تكون طبيعية، ومن دون الحدّ الأدنى من الترتيبات الأمنية المطلوبة. في المقابل ما يعدّ فعلاً اختراقًا هو عملية استهداف فؤاد شكر، لأنّه كان يعيش لفترة طويلة مختفيًّا، بعيدًا عن الأنظار. هنالك مكافأة مالية من قبل الولايات المتحدة لمن يدلي بمعلومات عنه، حتى أنك لا تجد له صورة حديثة معلنة ومشهورة، فهو رجل أمني بامتياز، مثله مثل محمد الضيف وقبله يحي السنوار وغيرهم.
من سبق له زيارة هنية ومشعل في الدوحة، وقبل ذلك في دمشق سيلاحظ أنّهم يعيشون في ظروف لا تتوافر فيها الحدود الدنيا من الحماية الأمنية، فطبيعة عملهم وأدوارهم السياسية والاتصال مع العالم الخارجي تحول دون أن يتمكنوا من بناء جدران حماية مثل الأمنيين والعسكريين، وقد سألت مشعل في مقابلتي معه (في العام 2009)، بعدما لاحظت محدودية الإجراءات الأمنية وبساطتها، ألا يخشى من عملية اغتيال إسرائيلية؟! فأجابني: أنّ إسرائيل لو أرادت اغتياله فسيكون قراراً سياسياً وليس عسكرياً، فهي ليست عاجزة عن رصد تحركاته ونشاطاته، ولديها من الوسائل التكنولوجية الكافية من الوصول إليه، لكنّه سيبقى قراراً سياسياً، والحال كذلك اليوم بوجود المكتب السياسي للحركة في قطر، فهو قرار سياسي وليس عسكرياً بالدرجة الأولى، وذلك كي لا نظن أننا أمام اختراق أمني أو نصر عسكري كبير، بل هو قرار سياسي وله دلالاته الرمزية والسياسية والتاريخية التي لا تخفى بالضرورة.
أما الدلالات السياسية والاستراتيجية للعمليتين فهي كبيرة جداً بلا شك، وتمثّل تغييراً نوعياً من قبل إسرائيل في قواعد اللعبة الإقليمية، ومحاولة توسيع رقعة الصراع، واستدخال حزب الله وإيران بصورة أكبر فيه، فالضربة موجعة جداً لحزب الله، وتمثل صفعة قاسية، ولا يقل الأمر بالنسبة لطهران، ليس فقط لأنّ هنية في طهران، بل لطبيعة المناسبة ولقيمة الرجل ومكانته وأهميته، ولما يرتبط باللحظة الراهنة التي جاءت فيها عملية الاغتيال ضمن سياق التصعيد وتبادل الرسائل واستعراض القوى بين الطرفين (إسرائيل وإيران وحلفائها في المنطقة).
من الواضح أنّ حكومة نتنياهو تسعىإلى بناء معادلة أمنية جديدة، بعدما تفسخت المعادلة السابقة، والعدو الرئيس اليوم لإسرائيل، بعد خروج الدول العربية والسلطة الفلسطينية من حلبة الصراع بالكلية عسكرياً، تتمثل بإيران ونفوذه وحلفها الإقليمي، الذي انتقل في التموضع من مصطلح "وحدة الساحات” إلى "إسناد الساحات”، وإذا انتقلنا من المستوى الكلي إلى الجزئي، فإنّنا نجد بأنّه قد يكون هنالك توافق بين حكومة نتنياهو اليمينية والمؤسسة العسكرية والأمنية فيما يتعلق بالحدود الشمالية لإسرائيل أكثر مما يتعلق بمسار الحرب العدوانية الحالية على غزة، ذلك أنّ قوة حزب الله الراهنة، بفضائه الإقليمي والجيو استراتيجي (مع إيران مروراً بسورية والعراق) يمثّل مصدر تهديد أكبر لإسرائيل، ويمكن أن يضاف إلى ذلك المحاولات الإسرائيلية المحمومة، بخاصة من قبل نتنياهو، في جرّ أميركا معه إلى ضربة قاصمة للبرنامج النووي الإيراني.
إدارة الرئيس بايدين والمؤسسات العسكرية والأمنية الاميركية ما تزال مصرة على الحيلولة دون توسيع رقعة الصراع، وتجنبت الإدارة الاميركية تسديد ضربات حاسمة ضد الحوثيين والفصائل العراقية المؤيدة لإيران، كي لا يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية وساحات مفتوحة من الصراع، ونجحت إدارة بايدين على تجنب المنعرجات الخطيرة السابقة التي كانت تنذر بانفجار الصراع، لكن ليس مضموناً بقاء قدرتها على هذا الضبط الدقيق لقواعد الصراع العسكري للمرحلة القادمة.
على الجهة المقابلة؛ فإنّ اغتيال اسماعيل هنية مؤشر على نوايا إسرائيل القادمة بصورة واضحة، وتتمثل بالقضاء على قيادات حركة حماس في الداخل والخارج، ولما سنحت الفرصة لاغتيال صالح العاروري ثم اسماعيل هنية لم تتردد إسرائيل في ذلك، وربما وجود القيادة السياسية في قطر هو ما يمثّل ضمانة أمنية لهم من عملية الاغتيال، لكن إلى متى؟! بخاصة إذا أرسلت إسرائيل رسائل واضحة لقطر بعزمها على اغتيال قادة حماس، فإنّ قطر ستحاول تجنب مثل هذا السيناريو على أرضها.
كيف سيكون الرد الإيراني ورد حزب الله على ما حدث؟! لا نقول هل سيكون هنالك ردّ، فالمسألة تحصيل حاصل، ولا جدال أنّ هنالك رداً قادم، لكن السؤال هو عن مستوى الرد وكفاءته وإمكانياته وأهدافه؟ هل سيكون مثل المسيرات الإيرانية والصواريخ المجنحة التي جرى إسقاطها سابقاً؟! أم سيكون هنالك رد مفاجئ؟! وهل سيفتح حزب الله النار على إسرائيل عبر صواريخ عابرة؟! وإلى أي مدى تطورت قدرات هذه الصواريخ في مواجهة "القبة الحديدية”؟! وهل ستتغلب معايير "العقلانية السياسية” وحسابات الخسائر والأرباح وموازين القوى بالنسبة لحزب الله، الذي تضغط عليه المعادلة الداخلية لبنانية بقوة؟! والحال كذلك بالنسبة لحسابات إيران الإقليمية، هذه الحسابات ستؤطر رد الفعل الإيراني، سواء كان مباشراً وأستبعد هذا الخيار في اللحظة الراهنة، أو كان بالوكالة والمقصود حزب الله والفصائل العراقية المرتبط بإيران؟!
إيران خسرت تكتيكياً باغتيال هنية على أرضها، لكن أيهما أشد فداحة على إيران هنية أم سليماني أم قادة حزب الله العسكريين؟! في ظني أن الآخرين هم الأكثر إيلاماً لإيران، ومع ذلك جاء رد طهران منضبطاً مدروساً محسوباً؛ لأنّ الإيرانيين يفكرون براغماتياً ولا يريدون أن يخسروا ما بنوه من نفوذ إقليمي كبير في لحظة واحدة وفي مواجهة مع أميركا وإسرائيل، وبالتالي إعطاء التبريرات لمواجهة مفتوحة مع إيران. لا يعني ذلك أن الحسابات الأميركية أقل تعقيداً فبايدين ليس مستعداً لحرب إقليمية في آخر عهده وصراع بالوكالة مع إيران، بخاصة أنّ طموح إيران الاستراتيجي يتمثل اليوم بالتخلص من القواعد الأميركية في العراق أولاً وسورية ثانياً، وهي التي تمثل أولوية له، في سبيل بناء فضاء استراتيجي من طهران حتى البحر المتوسط.
في الخلاصة، الحسابات ما تزال معقدة ومركبة للأطراف الإقليمية جميعاً، وما تزال السيناريوهات مفتوحة على خيارات تبدأ من الاستمرار بردود الفعل المنخفضة، إلى المتوسطة، أو حرب محدودة، أو حرب مفتوحة..