«بيرد» للبريطانية أندريا أرنولد… رحلة في الهشاشة الإنسانية والبحث عن الحرية

في فيلمها الجديد «بيرد» Bird، تواصل المخرجة البريطانية أندريا أرنولد حفرها العميق في موضوعات الهشاشة، الفقد، والحرية المقموعة. وكعادتها، لا تقدم أرنولد سردية مباشرة، بل بناءً سينمائيا مفتوحاً، يستدعي المشاهد للمشاركة في تشكيل معناه، وتحويله من عمل فني إلى تجربة وجودية شخصية. تنسج أرنولد عالم الفيلم بتروٍ، كما لو أنها ترقب العالم من خلال عيون شخصياته الصغيرة والهشة.
على السطح، تبدو القصة بسيطة: بايلي، فتاة مراهقة تعيش في بيئة فقيرة مهمشة، تتعرف على رجل غامض يُدعى بيرد، وتنشأ بينهما صداقة، ولكن تحت هذه البساطة الظاهرية، تنسج أرنولد خريطة عاطفية معقدة عن الهوية، الانتماء، الحرمان العاطفي، الصداقة والرحلة صوب النضج.
الرمزية: الطائر كحلم مستحيل
عنوان الفيلم ليس اختيارا عابرا، اختيار أن يكون الصديق الغامض، الذي لا نعرف في البدء كيف أتى للمدينة الصغيرة ولماذا، اسمه «بيرد» أو الطائر (Bird) رمز متعدد الأوجه: الحرية، البراءة، الهرب، الهشاشة، والقدرة على أن يكون جارحا مقتنصاً، إذا اقتضى الأمر ذلك. شخصية بيرد تتجسد ككائن خارج النظام الاجتماعي، يعيش بطريقة غرائزية، عفوية، وكأن قوانين العالم البشري لا تنطبق عليه. وجوده في حياة بايلي يشبه النافذة التي تُفتح فجأة على احتمالات أخرى للوجود، احتمالات لا تكون دائما وردية، لكنها على الأقل تحمل وعداً بالاختلاف. الطيران هنا لا يُقدم كخلاص رومانسي، بل كحركة مستمرة نحو المجهول. تماما كما أن الطائر قد يطير نحو العاصفة، فإن الشخصيات في الفيلم تتحرك مدفوعة بالغريزة، لا بالخطة أو الأمل الواضح.
الطفولة المهدورة والعلاقات المبعثرة
في «بيرد» أرنولد تستكشف الطفولة والمراهقة كما استكشفتهما بحساسية فائقة في فيلمها «فيش تانك» (2009). بايلي ليست طفلة بالمعنى الكامل، ولا شابة ناضجة بعد؛ عالقة في منطقة رمادية قاسية. عائلتها مفككة: الأب موجود جسدياً وحاضر عاطفياً أحياناً، ولكنه يبدو في الكثير من الأحيان أقل نضجاً من ابنته الصبية، ويبدو كما لو أنه تورط في الأبوة، وهو لا يزال مراهقاً، والأم تبدو شخصية بعيدة في حياة الفتاة، ويبدو أيضا أن بايلي هي من يقدم الرعاية والحماية لأمها، وليس العكس. هذه الديناميكية الأسرية الممزقة تسلط الضوء على كيفية تشكّل الهوية في غياب الحب غير المشروط والدعم الحقيقي. العلاقة بين بايلي وبيرد تتسم بغموض مقصود. أرنولد لا تقدمها كقصة حب بالمعنى التقليدي، ولا تقع في فخ استغلال العلاقة درامياً. العلاقة بينهما تقوم على الاحتياج الإنساني البحت: احتياج إلى أن يشعر كل منهما بأنه مرئي ومفهوم. الفيلم يتحدى الأفكار المسبقة عن العلاقات «الصحيحة»، مقترحا أن الحاجة إلى التواصل الإنساني قد تتخطى التصنيفات المجتمعية المعتادة.
الشكل السينمائي: لغة الصورة والصمت
سيناريو الفيلم، الذي كتبته أرنولد، مقتصد في الحوار، ولكنه غني بالصورة، مما يلائم تماما عالمه الداخلي. الكاميرا تلتصق ببايلي، تُراقبها في صمت، دون أن تحكم. أرنولد تعيد تشكيل تقاليد الواقعية البريطانية، لكنها تدمجها بحس شاعري يجعل كل تفصيلة جسدية، أو خطوة، أو نفس، أو نظرة، معادلاً شعوريا للحالة الداخلية للشخصيات. الطبيعة، متمثلة في الريح، والبحر، والأشجار، ليست مجرد خلفية، بل شريكة في السرد. الطبيعة هنا تعبر عن شيء لا تستطيع الشخصيات قوله بالكلمات. الفضاءات المفتوحة تشير إلى احتمالات الحرية، لكنها في الوقت نفسه تعكس الوحدة والضياع.
يفسح السيناريو مساحة كبيرة للصور والإيماءات لسرد القصة. الكلمات هنا نادرة، لكنها حين تُقال، تحمل ثقلاً كبيرا. هذا الصمت المدروس يمنح الفيلم قوته العاطفية؛ ويجعل المشاهدين، يشعرون بآلام الشخصيات كأنها آلامهم الخاصة.
واحدة من أكثر ملامح الفيلم إثارة للإعجاب هي الطريقة التي يعالج بها موضوعات الطفولة الضائعة، والحاجة إلى الحب، دون الوقوع في الميلودراما أو إثارة الشفقة. أرنولد تحترم شخصياتها، حتى في أقصى حالات ضعفهم، ولا تحكم عليهم أبداً. لا يقدم الفيلم حلولا جاهزة أو نهايات مُرضية؛ بل يترك الأمور معلقة، مثل حياة شخصياته نفسها. هذه ليست قصة خلاص تقليدية، بل رحلة وجودية صغيرة نسير على دربها في الفيلم.
الحرية المفقودة: نقد اجتماعي صامت
رغم أن الفيلم لا يصرّح برسالة سياسية مباشرة، إلا أننا يمكن أن نستشف منه نقدا عميقا للنظام الاجتماعي البريطاني، حيث يترك المهمشون لمصائرهم، دون رعاية أو أمل حقيقي. أطفال مثل بايلي لا يُمنحون فرصة عادلة، بل يضطرون لخوض معترك الحياة قبل الأوان. يمثل «بيرد» تعليقاً مؤلماً على مجتمع يحطم، أو يسدد ضربات موجعة، لأضعف أفراده، دون أن يشعر أو يهتم. لا يُقدم الفيلم خطاباً سياسياً فجا؛ بل يكتفي بتصوير العالم كما هو، ويترك للمشاهد مهمة قراءة هذا العالم وإصدار أحكامه.
الخاتمة: شاعرية الألم وإمكانية الحلم
«بيرد» فيلم يتطلب من جمهوره الصبر والانفتاح العاطفي، لكنه في المقابل، يكافئ من يخوض تجربته بحساسية نادرة. الفيلم لا يمنح أجوبة، بل يطرح أسئلة: عن الحرية، والحاجة إلى الحب، والمعنى الذي نصنعه لأنفسنا وسط عالم قاسٍ غير مبالٍ. أرنولد، كعادتها، لا تبحث عن إبهار بصري ولا تصنع دراما مفتعلة. هي تخلق سينما تشبه الحياة: فوضوية، غير مكتملة، موجعة، وفي لحظاتها النادرة، مدهشة بجمالها الخام.