#عاجل..الأحداث الأخيرة.. دعوة لسيادة الدّولة ومراجعة الذات

أخبار دقيقة -
كتب - نورالدين نديم
في خضمّ الأحداث الأخيرة التي شهدها المجتمع الأردني، والتي كشفت بواطن النُّخب وعامّة النّاس، وتجلّت بوضوح في النقاشات العامّة، سواء على منصّات الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى في جلساتنا اليوميّة المعتادة، حيث برزت ملامح أزمة عميقة تتجاوز اللحظة العابرة، وتُشير إلى وجود اختلالات متراكمة في البناء الفكري والتربوي تُهدّد السّلم المُجتمعي، وتُنذر بتداعيات خطيرة ما لم تُعالَج بخطّة وطنية شمولية بعيدة المدى.
فهذه الأزمة ليست عابرة، فهي انعكاس لفكر عميق مُتجذّر عند البعض، وما لم تُعالج فإنّ إنعكاساتها بالرفض أو التفهّم أو المحاكاة، لن يقتصر على فئة دون أُخرى، بل سيطال كل مكوّنات المجتمع الأردني، على اختلاف منابته وأصوله، وأطيافه الفكرية، وأعماره ومواقعه، مما سيتسبب -لا قدّر الله- في انقسام يُهدّد أمن الوطن وسلامة مواطنيه.
ويكمن جوهر المشكلة في غياب التوازن الفكري، وفي التشوّه التربوي، الذي نتج عنه فئتين تتنازعان بخطابين متطرفين: أحدهما يُنكر الدّولة ويتنكّر لها، وبعتبرها وظيفيّة في وجودها منذ تأسيسها، والآخر يحصُر الوطن بنفسه، ويُنكر مواطنة الآخرين، ويحتكر صرف صكوك الوطنيّة والانتماء والمواطنة لهم.
لقد بات من الواضح أن الواقع العربي والإسلامي، بما في ذلك الأردن، يعيش حالة اغتراب عن الهوية العربيّة الإسلاميّة الأصيلة، ويقع تحت تأثير ثقافات مستوردة لا تراعي الخصوصيّة الثقافية والاجتماعية والدينيّة للمجتمع.
فثقافة القوي التي فرضت على جزء من أبنائنا الاستسلام لكل ما هو غربي وتقبّل القيم الاستعماريّة والتعايش معها، لم تراعي حتّى تعريب هذه القيم وأسلمتها، بل عملت على استيرادها وانتزاعها من بيئتها الأصلية، وفرضها على واقعنا الذي لا يمتّ لها بصلة، ممّا أحدث صدامًا بين ما هو متجذّر في الضمير الجمعي، وما يُقدَّم بوصفه "تقدّمًا" أو "تحديثًا"، فكانت ردّة الفعل عند البعض -مع غياب التربية الصحيحة- أن ينأى بنفسه ويتحوصل مع شركاء فكره وينعزل عن المجتمع الذي يصفه بالجاهلي ويُعادي ولو بعقله الباطن الدّولة ولا يخضع لقوانينها التي يصفها بأنّها تُخالف ما أنزل الله تعالى.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام مشهد ثقافي وتربوي مشتبك، تختلط فيه الإيجابيات القليلة بسلبيات طاغية، نتيجة غياب الرؤية الوطنية الواضحة التي تُوازن بين الثوابت والمتغيرات.
ومن المؤسف أن تتآكل الهوية الثقافية الأردنية تدريجيًا، نتيجة حالة الصراع مع الذات، والتي لا تُعبّر فقط عن أزمة ثقافية، بل عن ضبابية فكرية حالت دون التمييز بين أصل المشكلة وأعراضها، وبين سبل المعالجة ووسائلها.
يتجلّى هذا الخلل بوضوح في التربية الدينية مُتعدّدة الأطراف، التي تُقدَّم أحيانًا عبر قوالب مذهبية جامدة، ينتج عنها فصلٌ تعسّفيٌ بين الدين والواقع، مما يُغذّي ظواهر الانغلاق والتكفير.
وكذلك الخلل الحاصل في التربية الوطنية عند البعض والتي تُغيّب المفهوم القومي العروبي والعمق الإسلامي الذي تأسست عليه الدولة الأردنيّة منذ أولى لحظاتها.
ومما يزيد المشهد تعقيدًا، استمرار التحالف الخفي بين السلطات السياسية وبعض القُوى الدينية التقليدية والذي ينتج عنه استبداد مزدوج: سياسي وفقهي.
والأخطر من ذلك كلّه هو نشوء استبداد اجتماعي جديد، تُوظَّف فيه الأدوات الإعلامية والتربوية لحشد الرأي العام ضد أي رأي آخر مُعارض لرؤيتهم، سواء بدعوى الحفاظ على الموروث والقيم، أو بدعوى الحفاظ على الهويّة والوطن.
إن هذا الواقع المختل أنتج أزمة في الهوية الوطنية الأردنية، وخلق حالة من التيه المجتمعي، انعكست على سلوك الأفراد وانتماءاتهم وتوجّهاتهم.
بل باتت الوحدة الوطنية ذاتها مهددة، بحيث يمكن لمباراة كرة قدم أو إشاعة عابرة أن تُشعل فتيل الفُرقة والانقسام.
من هنا، فإن إعادة بناء الشخصية الوطنية الأردنية تستلزم مراجعة شاملة للمناهج التعليمية، والخطاب الإعلامي، وأساليب التنشئة الأسرية، بما يضمن تأسيس فكر متوازن يعترف بالتنوّع، ويُعلي من شأن العقل، ويُحصّن الأجيال القادمة ضد الانجراف نحو التطرّف أو الانحلال.
إن الحل لا يكمن في قمع خطاب بآخر، ولا في إقصاء فكر لمصلحة فكر مضاد، بل في التأسيس لحوار وطني حقيقي، يُعلي من قيمة العقل والمعرفة، ويُعيد الاعتبار لهويتنا الثقافية التي ضاعت بين مطرقة التشدّد وسندان التفريط.
نحن اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن نختار بناء الإنسان الأردني الحر، الواعي، المتوازن، أو نستمر في الانحدار نحو المزيد من التفتّت، والتشويه الفكري، والضياع الهويّاتي. فالمستقبل يُبنى بالوعي لا بالشعارات، وبالعمل لا بالتجييش، وبالصدق لا بالازدواجية.