إبراهيم نصر الله يكتب : كي لا يتعثّر الشهداء في هذا الليل
هذا الصباح أفتح شباكي الذي لم يعُد موجودًا
وأتكئ على حافته التي لم تعد موجودةً
وأسقي أزهار أُمّي التي لم تعد موجودةً
وألوِّح لجيراني الذين تبخروا في الهواء بعد قنبلة حديثة الصُّنع
وأغنّي أغنية فقدتْ نصف كلماتها، على الأقل، منذ بداية الحرب
وأهمس في أُذُن زهرة عباد الشمس المطفأة، التي كبرت ذات يوم قرب الباب، أمنية بلون البحر
وأتأمل ما تبقّى من آثار أقدام على العتبات التي غطاها الرّماد
وأراقب طفلة بحذاء ورديّ لم يُتَح لها أن تنتعله سوى مرّة واحدة
وأمد يدي نحو غصن شجرة الليمون التي تلعب معي الآن لعبة التخفّي
وأسأل العصفور الذي تناثر ريشه وترمّدتْ حنجرته أن يزقزق مرّة أخيرة
ثم أغادر البيت الذي لم يعُد موجودًا
٭٭٭٭
سأبحثُ عن الشّارع فقد أجده في آخر الشارع
وأطرُق باب بيت الجيران الذي أصبح في الجهة الثانية
وأتقافز فوق حبل مُعلَّق عليه قميص فتاة في الثالثة
وأُبعد علبة حليب عن التراب، فقد تحتاجها الرّضيعة التي قتلوا أمَّها
وأدقّ أوتاد الخيمة التي احترقت
وأشقُّ قناةً صغيرةً نحو منتصفها فقد ينزل الماء فيروي رماد من كانوا فيها
سأسير نحو الدكان القريب وأبحث بين الدمار عن قطعة شوكولاتة لم يصلْها دم
وأُطعِم نصفَها لطفل يسألني عن أبويه، فقد ينقص عدد دمعاته دمعةً
سأرفع ستة أحجار عن الطريق كي لا يتعثر الشهداء في هذا الليل
وأُمهِّد التراب بأطراف أصابعي فقد يعثر الجرحى فوقه على دقيقة نوم
وأمرُّ بالمستشفى وأُرتِّب الأسرة المحطمة
وأنفض الغبارَ عن أغطيتها الممزقة
وأرتِقُ الثقوب التي فيها
فقد تشفى قليلًا جراح من ناموا عليها بعد أن استُشهدوا
سأرفع رأسي وأحدق في طائرة إف 18 تعبر السماء
فقد يكون الله منحني قوة تكفي لإسقاطها
وأحدق في دبابة تطلق النار على «هند رجب»
فأعيد الطلقات نحو قلوب الجنود القاسية التي في داخلها
٭٭٭٭
سأنعطف نحو شارع آخر كان هنا قبل أسبوعين
سأكتب قصيدة فكّر فيها طويلا «رفعت العرعير»
وأكمل اثنتين لم يكملْهما «سليم النفار» و»هبة أبو ندى»
وأعزف مقطوعةً على كمان «لبنى عليان» التي حلمت بالوقوف على مسرح أوبرا سيدني، ومسرح لا سكالا في ميلانو، وقاعة ألبرت الملكية في لندن، مع رفيقها في السماء «يوسف دوّاس».
وأُقبّل جبين معلمة البيانو «إلهام فرح» وحروف حديثها الأخير عبر الهاتف: «أنا مرميّة في الشارع، ولا أشعر برجلَي، لكن أصابع يدَيَّ، والحمد لله، بخير».
سأغمض عينيها لتسترجع الألحان التي عزفتها طوال ثمانين عامًا.
وسأستمع لصدى أصوات المغنّين في أوبرا كارمن وهي تحتضن جسد «إلهام»، ولكارمن وهي تغني: «افعلْ ما شئتَ.. لكنّ كارمن حرّة… وستظلّ حرّة حتى موتها»..
سأُنصِت طويلاً «لأكرم العجلة» عازف الإيقاع الذي يقرع طبوله كي يغطي على صوت الانفجارات، لينظف أرواح الأطفال، ولو لحظة، من شياطين الفزع
وأجلس على حافة الرصيف الذي كان هنا وأتأمل «إننا نحترق» اللوحةَ الأخيرة لـ «محاسن الخطيب»
سأنهض
وأنفض غباري عن نفسي لأترك مساحة فارغة لغبار أطفالٍ لم يجد غبار أجسادهم قبرًا أو زاوية في بقايا البيوت
وأسير
ورائي يصرُخ بي: ارجعي، وأمامي يرجوني: تقدّمي
قدماي فقدتا حاسّة الجهات مُذ بُتِرتْ أصابعهما
سأدور حول نفسي لعلني أرتطم بشيء يقول لي إن كنتُ على قيدها هذه الحياة أم لا:
أمنية تشبه قلبي.. ضحكة تشبه عينَيّ
همسة تشبه قطرة ماء تشتهيها حنجرتي اليابسة
٭٭٭٭
هذه الليلة ليست كليلة الأمس
هذا الصباح لا يشبه الشّمس التي رأيتها ذات يوم على شاطئ البحر
هذا الهواء لا يشبه أنفاس أمِّي
هذا الغصن لا يشبه أحلام الطيور بالربيع
٭٭٭٭
لماذا تفرّ الأمواج بعيدة عن الشاطئ؟
لماذا يخبئ البحر رأسه في الأعماق؟
لماذا تتضاءل السّروة خائفة في بيت الجيران؟
لماذا يطلقون علينا كلّ هذا الجحيم، وجحيم أقلّ من هذا بكثير يكفي ويزيد؟
لماذا يبتلعون الأرض بقنابل السماء؟
لماذا لا يتركون بعض الضحايا وليمةً لليوم التالي؟
لماذا يريدون قتْلنا جميعاً في ساعة واحدة؟
لماذا يتحسّسون فِراء قنابلهم النووية كلّما تحدّثوا عن غزّة؟
وقنابلهم الانشطارية كلما وصلتْهم تقارير الاستخبارات عن عدد الصغار في غرف الخداج؟
لماذا يهتفون بقتْلنا في شوارع «تل أبيت»، وكأن جيشهم كان يوزِّع الحلوى علينا منذ عامين؟
لماذا لا تكفيهم الإبادة كي يشبعوا؟!
«خذ قطعة من لحم هذا الطفل، خذ قطعتين، خذه كلَّه
ما زال الطريق أمامنا طويلاً قبل أن نقتلهم جميعًا»، يهمس الجنرالُ للجنديّ
أمشي فأتعبُ أكثر/ أجلسُ فأتعبُ أكثر
أتذكر فأتعب أكثر/ أنسى فأتعب أكثر
أتمنّى فأتعب أكثر/ أيأس فأتعب أكثر
أصرخ فأتعب أكثر/ أهمس فأتعب أكثر
أصحو فأتعب أكثر/ أحلم فأتعب أكثر
أحيا فأتعب أكثر
لكنني لا أريد أن أموت
أنا لن أفعل شيئا إن فعلتُها ومتُّ:
لن أفتح الشباك/ ولن أكمل القصيدة
ولن أرى كارمن مرة أخرى
ولن أنفض الغبار عن جسدي
ولن أسمع الموسيقى في قاعة أوبرا سيدني، أو أعزفها
ولن أمضي لحفلة أعياد ميلاد أصدقائي الشهداء في المقبرة المجاورة
كما قررتُ أن أفعل هذه الليلة..