السياسة في المدرجات… كيف تتحوّل الملاعب إلى برلمانات شعبية؟

كتب _ عدنان نصّار

في كلّ مباراة تبدو الجماهير وكأنها تحتفل برياضة خالصة، لكنّ المشهد أعمق من مجرد منافسة على ثلاث نقاط أو لقب موسمي. فالملاعب باتت مساحة عامة تُعلن فيها الشعوب ما تخشاه في السياسة وتُجاهر به في المدرجات. وعندما تشتعل الحنجرة بالهتاف، يرتفع صوت الناس لا بوصفهم مشجعين فقط، بل كمواطنين يبحثون عن منبر بديل، في عالم تضيق فيه مساحات التعبير. هناك، تتحول الرياضة إلى لغة ثانية للسياسة، ويصبح التشجيع أقرب إلى استفتاء حقيقي بلا صناديق.

 

 

 

 
إن الملاعب، على اتساعها وضجيجها، تخلق حالة نادرة من الإجماع الشعبي. جمهور لا يفرّقه الانتماء الأيديولوجي، بل توحده هوية الفريق وألوانه. ورغم بساطة هذا الرابط، إلا أنه يمتلك قدرة خارقة على تحريك الوعي الجمعي. فالهتاف الذي يبدأ دعمًا لنادٍ قد يتحوّل فجأة إلى تعبير عن الغلاء أو البطالة أو قضايا التحرر. لا حاجة لميكروفونات أو حزبيين؛ فالمدرج نفسه يتحول إلى منصة والرقم واحد على ظهر لاعب يصبح رمزًا أو بطلاً أو خيبة.

لقد شهدت السنوات الماضية نماذج واضحة تُثبت أن الرياضة ليست بعيدة عن صناعة الرأي العام. ففي دول كثيرة، لعبت الملاعب أدوارًا تتجاوز المرمى والشباك. في أمريكا اللاتينية، كانت المدرجات منصة احتجاج اجتماعي واقتصادي. في بعض الدول العربية، تحوّل جمهور كرة القدم إلى طاقة سياسية حرّكت الشارع، وأسهمت في كشف التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الشعبي. الهتاف في الملاعب لم يعد فقط عن الفوز، بل عن الكرامة، والخدمات، والعدالة الاجتماعية.

ولا يمكن تجاهل الجانب الآخر: استثمار السياسة للرياضة. فالدول تدرك أن الإنجاز الرياضي جسر سريع للوصول إلى جماهيرها، وتعزيز صورة الاستقرار والنجاح. نرى ذلك بوضوح في احتفالات الانتصارات الكبرى، حين يُسارع السياسي إلى تصدر الصورة أو الخطاب. وبالمقابل، تدرك الأنظمة أن الخسارة الكبرى لا تهزّ المنتخب فقط، بل تُربك المزاج العام وتفجّر أسئلة عن الأولويات والإنفاق ودور المؤسسات. هذه العلاقة الملتبسة بين الرياضة والسلطة تُظهر أن الملاعب ليست بريئة من السياسة… ولا السياسة بريئة من الملاعب.

وإذا كان المدرج يتحول أحيانًا إلى ساحة غضب، فإنه في لحظات أخرى يصبح ساحة تضامن إنساني. هناك، يتقاسم الجمهور مشاعر الانتماء والفرح والخيبة، وتتشكل هوية جماعية تجعل الفرد يشعر أنه جزء من شيء أكبر. وهذا الشعور، إذا أُحسن فهمه، يمكن أن يكون ركيزة لبناء مشاركة سياسية أكثر نضجًا. لكن في غياب قنوات مؤسساتية تستوعب تلك الطاقة، يظل صوت المدرجات معلّقًا بين الاحتجاج والفرح، بلا ترجمة فعلية.

السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم: هل ستظل الملاعب بديلًا طارئًا للبرلمانات؟ أم أنها مجرد صدى لما لا يُقال علنًا؟ من الواضح أن الجماهير قادرة على تشكيل رأي عام وأن السلطة تتابع نبض المدرجات بدقة، لكنها لم تستطع بعد تحويل ذلك الصوت إلى سياسات تعالج الجذور لا النتائج.

وفي زمن تتراجع فيه الثقة بالبرلمانات الحقيقية بسبب ضعف الأداء، والانشغال بالمصالح بدل المصالح العامة، تبدو الملاعب وكأنها تعبّر عن ديمقراطية بديلة، غير رسمية، لكنها أكثر صدقًا وعفوية. إنها مفارقة الحداثة: نُشيّد مباني ضخمة للسياسة، لكننا نسمع الصوت الحقيقي في المدرجات.

في النهاية، لا الرياضة تستطيع الهروب من السياسة، ولا السياسة تستطيع تجاهل الرياضة. وبينهما يقف المواطن… يهتف حين يُغلق باب الكلام، ويصفّر حين يتألم، ويرفع علم فريقه كأنه علم وطن. الملاعب اليوم أكثر من مجرد مستطيل أخضر؛ إنها ساحات رأي وتعبير، وجسور بين السلطة والشعب، وبرلمانات شعبية تنطق بما يخشى البعض سماعه، لكنها تقول الحقيقة كما هي: بلا تلميع… وبلا خوف.

كاتب وصحفي أردني