معركة السردية بعد حرب غزة: كيف تُعيد تل أبيب وواشنطن تصنيع صورة الاحتلال؟ #عاجل
كتب ـ اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني
لم تشهد السردية الصهيونية انهيارًا شاملًا كما شهدته خلال الحرب المدمّرة الأخيرة على غزة. فقد سقط القناع الذي ارتدته دولة الاحتلال لعقود، وتحوّلت روايتها عن "الدولة الديمقراطية المحاصَرة" إلى حطام مكشوف أمام العالم. انكشفت الحقيقة الدامية: دولة تدير آلة قتل جماعي، تدمّر المدن، وتستهدف المدنيين بشكل مباشر.
لم يكشف الفلسطينيون هذه الحقيقة بخطابات، بل بدمائهم ودمار مدنهم. ومع هذا الثمن، اهتزّت صورة دولة الكيان الصهيوني في الوعي العالمي، خصوصًا لدى الأجيال الشابة.
استراتيجية ترميم الصورة: شراكة صهيونية– أميركية
أمام هذا السقوط الأخلاقي والإعلامي، تتحرك تل أبيب ومعها واشنطن لإعادة بناء صورة جديدة للاحتلال وتغيير بوصلة السردية العالمية. تقوم هذه الخطة على أربعة محاور رئيسية:
أولاً: استنفار القوة الإعلامية والدبلوماسية الرقمية
أدركت دولة الكيان أن معركة اليوم تُحسم على شاشات الهواتف بقدر ما تُحسم في الميدان. لذلك فعّلت "الدبلوماسية الرقمية" عبر:
- إعادة إنتاج خطاب "الدفاع عن النفس".
- تضخيم روايات تربط المقاومة بإيران وداعش والإخوان.
- ضخ محتوى منسّق لإضعاف أثر صور غزة والضفة.
وتصف إسرائيل هذه الجهود بـ"الجبهة الثامنة"، استكمالا للجبهات السبعة التي تفتحها(غزة، الضفة الغربية، لبنان، سوريا، اليمن، ايران، العراق). وقد رُصد لهذه الجبهة أكثر من 156 مليون دولار، بهدف تحويل النقاش من المجازر إلى "التهديدات" التي تدعي دولة الكيان انها تواجهها.
ثانياً: حملات إعادة التموضع الدبلوماسي والعلاقات العامة
تشمل هذه الحملات:
- توسيع اتفاقيات التطبيع لإيحاء بأن إسرائيل ليست معزولة، كما في اتفاق كازاخستان الأخير.
- شراء خدمات شركات علاقات عامة عالمية وتوظيف مؤثرين لتلميع صورة الاحتلال.
- تنظيم زيارات مكثفة لآلاف البرلمانيين ورجال الدين والصحافيين والمؤثرين إلى تل أبيب.
- إطلاق روايات إنسانية مضادة تركز على "الم المجتمع الصهيوني" وتروّج لقصص ملفّقة حول ما جرى في 7 أكتوبر.
الهدف هو كبح المدّ الشعبي العالمي الذي بات يميل بوضوح إلى صفّ الفلسطينيين.
ثالثاً: خلق معارك جانبية لصرف الأنظار عن غزة
لأن جرائم الحرب أدت إلى عزلة غير مسبوقة لتل أبيب، تعمل واشنطن وإسرائيل على افتعال أزمات جديدة، أبرزها:
- الحرب على الإخوان المسلمين عبر الدفع لتصنيفهم "تنظيمًا إرهابيًا”.
- إعادة التصعيد مع إيران لإغراق المنطقة في أزمة إقليمية تُغطي على ملف غزة.
§خلق ازمات داخلية لدول الجوار وخاصة في لبنان وسوريا والأردن: لبنان، من خلال الضغط العسكري والدبلوماسي على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله. وسوريا، من خلال الإعتداءات المستمرة على الأراضي السورية وتشجيع ودعم الأقليات لزعزعة الأمن الداخلي. والأردن، من خلال التصريحات المتتالية لوزراء اليمين المتطرف التي تمس امن الدولة واستقلال المملكة.
- إحياء خطاب "محور الشر" بهدف إعادة الاصطفاف الدولي القديم حول رواية "الخطر الإيراني".
هذه المعارك ليست سوى أدوات لتحويل الأنظار عن جرائم غزة والضفة.
رابعاً: الضغط على الحكومات الغربية لقمع الرأي العام
تستخدم إسرائيل شبكات لوبيات سياسية وإعلامية لفرض إجراءات تشمل:
- تجريم التظاهرات المؤيدة لفلسطين.
- الضغط على الجامعات لمنع فعاليات داعمة لغزة.
- التأثير على مراكز الأبحاث لتبنّي تحليلات تتماشى مع الرواية الإسرائيلية.
- استخدام تهمة "معاداة السامية" لإسكات النقد، كما حدث بسحب عضوية الدكتور كامل العجلوني من جمعية أميركية علمية.
- الضغط على شركات التواصل لعزل المحتوى الفلسطيني.
الغاية واضحة: خنق الصوت العالمي الذي كشف حقيقة الاحتلال.
المطلوب عربيًا: مسؤولية لا تقبل التأجيل
بعد التضحيات الاستثنائية التي قدّمها أهل غزة، لم يعد مقبولًا السماح بتشويه الرواية الفلسطينية مجددًا. المطلوب عربيًا يتوزع على ثلاثة مسارات:
1. تثبيت السردية الإنسانية الفلسطينية عالميًا
لا بد من استراتيجية إعلامية رقمية عربية موحدة تُظهر حقيقة دولة الاحتلال: دولة ارتكبت جرائم إبادة، وقادتها مطلوبون للجنائية الدولية، وتواصل احتلالًا استعماريًا. المطلوب خطاب عربي حازم ومتناسق يحمي السردية التي كشفها صمود غزة.
2.إفشال معارك الإلهاء
الحروب الجانبية على الإخوان او حزب الله أو التلويح بحرب على إيران، ليست معارك الأمة العربية بل أدوات لصرف النظر عن الإحتلال الصهيوني وجرائمه وخطط قادته في التوسع على حساب فلسطين والدول العربية، ويجب عدم الإنجرار إليها.
3. تفعيل أدوات الضغط: المقاطعة والقانون ورفض التطبيع
المحاسبة القانونية وحملات المقاطعة ورفض التطبيع كلها ليست شعارات، بل أدوات فعّالة أثبتت قدرتها على لجم المحتل وردعه وإحداث تغيير حقيقي في الرأي العام والمؤسسات الغربية.
خاتمة
تكشف الحرب على غزة وما أعقبها من معارك سردية عن مرحلة جديدة من الصراع، لا تقتصر على الميدان العسكري بل تمتد إلى الفضاءات الإعلامية والدبلوماسية والقانونية. وفي ظل محاولات مكثفة لإعادة ترميم صورة الاحتلال، تصبح مسؤولية حماية السردية الفلسطينية وإبقاء الحقيقة في مركز النقاش العالمي واجبًا سياسيًا وأخلاقيًا وثقافيًا لا يمكن التراجع عنه.
إن صمود غزة لم يُسقط البنية الدعائية الصهيونية فحسب، بل أعاد تعريف جوهر الصراع. ومن ثم، فإن أي تراخٍ عربي في هذه اللحظة قد يتيح إعادة إنتاج الرواية التي اهتزت بقوة، ويمكّن الاحتلال من استعادة ما فقده في وعي الشعوب.