العربدة الإسرائيلية في الجنوب السوري

عدنان نصّار

في الجنوب السوري، لم يعد صوت الحرب محصورًا في الداخل المثخن بجراح سنوات القتال الطويل، بل صار يأتي من الخارج بصخبٍ أعمى، يحمل عنوانًا واحدًا: العدوان الإسرائيلي المتجدد على أرضٍ استنزفتها الحرب ولم تُستنزف شهوة التوسع العسكري تجاهها. ما يجري هناك ليس مواجهةً أمنيةً محددة المعالم، بل سلوكٌ عسكريٌ منفلتٌ يفرض وقائعه بقوة النار، مستغلًا فراغ اللحظة السورية، وغموض المرحلة الانتقالية التي أعقبت إنكفاء الدولة عن كامل حضورها في الميدان.

بين درعا، القنيطرة، وريف دمشق، تتكرر الضربات التي تنفذها قوات الجيش الإسرائيلي لتتجاوز هذه المرة الأهداف المفترضة، وتتجرّأ على قصف المكان نفسه… والناس أنفسهم. ولعل أكثر تلك الضربات وضوحًا وربما صدمة، ما تعرّضت له بلدة بيت جن السورية، تلك التي تحتضن الجبل وتنام على سفحه منذ أزمان، لتصحو على مشهد صواريخ تتجاوزه، ولا تستهدف فيه خطرًا محددًا إلا إن كان الخطر هو الجبل ذاته، أو ما تبقى من فكرة السيادة والأمان في تلك القرى.

بيت جن ليست مجرد نقطة جغرافية في الأطلس؛ إنها قريةٌ جبليةٌ تقع في ريف دمشق محاذيةً لمرتفعات جبل الشيخ، وقد تحولت في لحظةٍ خاطفةٍ إلى عنوانٍ مكثفٍ لأسئلة مرحلية خطيرة، يتقدّم فيها الاحتلال العسكري بدل الإجابات. لم تُمنح العائلات هناك فرصةً لمعرفة ماهية الهدف، ولم تُمنح النشرات الإخبارية فرصة شرح التفاصيل الدقيقة؛ انفجاراتٌ تتردد أصداؤها في الوديان، تهزّ البيوت وتقتلع الطمأنينة وتكتب للمكان ذاكرةً جديدة لا تشبه إلا الغارات المفتوحة بلا ضوابط.

العدوان لم يحصد كثيرًا من الأرواح المباشرة بقدر ما حصد الأرواح المؤجلة، تلك التي تعيش داخل جنازاتٍ صغيرةٍ تسير نحو النزوح الصامت. عائلاتٌ تخرج من بيوتها وقد حملت معها أبسط حقوق البقاء: بعض الثياب، صور الأبناء، وصلواتٍ قصيرةٍ لمطرِ سلامٍ لا يأتي. لم يعد النزوح في الجنوب السوري صورةً تُختصر بالحقائب والأبواب نصف المفتوحة، بل بعيونٍ نحو السماء، وبقلوبٍ تخشى أن يتحول سقفُ البيت التالي إلى حفرةٍ في الجبل.

جنوب سوريا الذي يلاصق الحدود الأردنية، يشكّل حساسية أمنية قصوى، لكن العدسة الإنسانية تبقى الأوسع والأوجع. فعمّان التي تراقب المشهد ليست بعيدة عن استنتاجٍ لا بد منه: إن أي فوضى حدودية مصدرها القصف الخارجي، ستطرق أبواب المنطقة تلقائيًا، لامتداد الجغرافيا ووحدة المصير الأمني، قبل امتداد السياسة ووحدة السرديات المعلنة.

المعادلات العسكرية الإسرائيلية لا تؤسس لأمنٍ مزعوم، بل لمستقبلٍ مقلقٍ يعاد فيه تعريف الحدود بلغة القوة وحدها. ومع كل غارة تتوسع فيها إسرائيل، تتراجع فيها فكرة الدولة السورية ذات السيادة، وتتقدّم فيها مقولاتُ المليشيات، النفوذ الموازي، والطبقات المسلحة غير المنضبطة. العدوان الإسرائيلي لا يخلق خوف اللحظة فقط… بل يخلق خوف المستقبل.

الصمت العربي تجاه ما يجري في الجنوب السوري، يكاد يكون حدثًا موازيًا للغارات نفسها. لم ترتقِ البيانات العربية لمستوى المشهد المتدهور، ولم ترتقِ البيانات الأممية عبر الأمم المتحدة إلا إلى القلق اللغوي، الذي لا يعيد بناء جدارٍ واحد، ولا يرمّم صدعًا واحدًا في منازل بيت جن، ولا يمحو أثر القذائف من ذاكرة الأطفال الذين باتوا يعرفون أسماء الطائرات أكثر من أسماء الكتب المدرسية.

ثمة حقيقةٌ لا يمكن تغطيتها بالمصطلحات المواربة: هذا الجنوب لا يُقصف لأن فيه أهدافًا، بل لأن فيه فراغًا يسمح بالقصف. وإسرائيل لا تقوم هنا بعملية ردعٍ محددة، بل تقوم بعملية رسم وقائعٍ جديدة، على حساب السيادة السورية وحساب حق العائلات بالحياة الطبيعية، وذلك وفق مقولةٍ عسكريةٍ لا تعرف معنى التوافق، بل تعرف فقط معنى: "من يملك السماء… يملك القرار”.

ولعل الجنوب السوري اليوم، من درعا إلى بيت جن، يقف أمام مفترقٍ وجودي، لا سياسي فقط: إما استعادة منطق الدولة والسيادة، أو الهبوط الحتمي إلى لغة الفوضى وتصدير الأزمات إلى الجوار. ما يريده سكان الجنوب السوري، لا يحتاج إلى وصفٍ بلاغيٍ معقد: يريدون بيتًا لا يرتجف، وجبلًا لا يُعامل كهدف، وسماءً لا تُسقط عليهم نيران الدول الأخرى.

على هذه الأرض، تُكتب الأسئلة الكبرى بحجم الحياة الصغيرة نفسها: هل يمكن للجنوب السوري أن ينهض بوصفه خط تماسٍ إنسانيٍ قابل للحياة، لا بوصفه فراغًا إقليميًا تجري فيه العربدة العسكرية بلا محاسبة؟

وإلى أن تستعيد سوريا صوت الدولة، سيبقى المكان يُضرب بدل الخطر، وسيبقى الأهالي يهربون من السماء إلى الأرض… دون أن يجدوا ملجأً آمنًا في الإثنتين معًا.

فالسلام الذي يبدأ بالغارات… لا يصنع إلا مزيدًا من الأنقاض، وما يبدأ بالعربدة العسكرية لا ينتهي إلا بفواتير باهظة، تُدفع دائمًا من رصيد المدنيين، لا من رصيد الذين اتخذوا القرار.

كاتب وصحفي أردني