هناك… قرب المسجد الحسيني الكبير

عدنان نصّار

هناك، قرب المسجد الحسيني الكبير في عمّان، كان الزحام صاخبًا كأن المدينة نفسها تتنفس حياةً مزدحمة لا تهدأ. وجوهٌ تمر من أمامي بسرعة، تتشابك فيها الأصوات، وتتعانق رائحة الخبز الطازج مع القهوة والبهارات، ويختلط دخان الشيشة بأنفاس المارة. حركة لا تتوقف، تثير دهشتي في كل لحظة، كأن الحياة هنا تولد من الفوضى وتستمر بها.

كنت صغيرًا، لا أملك سوى حلمي الضيق: بذلة أنيقة وحذاء جديد، حلم بسيط لكنه بدا بعيدًا كسماءٍ لا تُطال. كان الفقر، ذلك العدو الصامت، يقف أمامي كجدار عالٍ لا يمكن تجاوزه.
قالت أمي يومها، بصوتها الدافئ الذي يطرد الخوف من قلبي:

 

"عندما تكبر، سأشتري لك بذلتين…”

 

ابتسمت، أمسكت بطرف ثوبها، وشعرت بدفءٍ يملأ روحي، ثم سألت نفسي بصوتٍ خافتٍ كمن يهمس بالرجاء:

 

"متى سأكبر؟”

 

مرت السنوات، والمدينة من حولي لم تتغير كثيرًا. الباعة ما زالوا على الأرصفة، يرفعون أصواتهم بين الروائح والدخان، والناس تتدافع بين الأزقة كما لو أن كل واحد منهم يبحث عن نصيبه من الحياة. لكن شيئًا في داخلي بقي كما هو: حلمي بالبذلة والحذاء، رمزًا صغيرًا لكرامةٍ مؤجلة، ولرغبةٍ بأن أكون مثل أولئك الذين يمشون بثقة وهدوء.

 

كنت أمشي، وأنا ممسك بثوب أمي، يصطدم كتفي الصغير بالمارة. أنظر خلفي نحو البسطات الممتدة على طول الطريق، وأراقب الحياة من عينيّ طفلٍ يحلم. وفجأة، انبعث من مذياعٍ قديم في مقهى قريب صوت ليلى نظمي وهي تغني:

 

"أمّه نعيمة… نعمة، ردي عليّ وكلّمني…”

 

ارتجف قلبي، وشعرت بأن الموسيقى تتحدث عني، عن حلمي الصغير، عن انتظار الطفولة الذي لم ينتهِ بعد.
كل نغمة، وكل كلمة، كانت مرآةً لحلمٍ لم يتحقق، لطفلٍ يسأل نفسه بصمتٍ: متى سأكبر؟ متى أستطيع أن أشتري البذلة بنفسي، وأمشي بثقةٍ وسط هذا الزحام؟

الباعة ينادون: على بضاتعتهم المفرودة بعناية ، لإضفاء لمسة تثير رغبات المارة بالشراء ..رأيت طفلًا صغيرًا يعبر الشارع ممسكًا بطرف ثوب أمه، وعيناه تتابعان واجهات المحال بدهشةٍ طفولية. ابتسمت له سرًا، كأنني أبتسم لذاتي القديمة التي لم تبرحني يومًا. شعرت حينها أن الطفل الذي كنته لم يرحل، وأن الحلم ما زال حيًا، يتوسد الصدر في داخلي ويناغشني مثل مشاكس صغيرٍ لا يتعب رغم تعب السنين.

اقتربت من بائعٍ على الرصيف، كانت على شماعته الخشبية بذلةٌ صغيرة معلّقة بعناية. لمست القماش، وشعرت بدفءٍ غريبٍ يسري في يدي. أدركت عندها أن الحلم لم يكن عن البذلة ولا الحذاء، بل عن معنى الانتظار، عن لذة الأمل، وعن تلك الطاقة السرية التي تجعلنا نواصل الحياة رغم قسوتها.

وقفت طويلًا قرب المسجد الحسيني الكبير، أراقب الزحام والوجوه، وأصوات المآذن تختلط بنبض المدينة، وشعرت أن كل خطوةٍ صغيرةٍ في طفولتي كانت تقربني من نفسي، من حنيني الأول، ومن تلك البساطة النقية التي تمنح الحياة معناها الحقيقي.

وأدركت فجأة، بين ضجيج الباعة وصخب الشوارع، أن الحياة ليست في الوصول إلى البذلة والحذاء، بل في لحظة الحلم ذاتها، في أن نواصل الانتظار، ونحمل في قلوبنا طفلاً صغيرًا لا يكفّ عن السؤال:

> "متى سأكبر؟”

لكنني اليوم، وبعد أن كبرت، أدرك أن الكِبر لا يُقاس بالعمر، بل بالقدرة على أن نحلم من جديد، وأن نحافظ على ذلك الدفء الكبير ، والحلم الصغير في قلوبنا، مهما اشتد الزحام حولنا.