مساء الورد.. نبض إربد القديم
عدنان نصار
مع اقتراب المساء، تتبدل ملامح المدينة وكأنها مرآة تتنفس ببطء. تختفي الأصوات الحادة، ليحلّ محلها همس الريح وهدير الصمت، بينما تتسلل أشعة الغروب الأخيرة على الجدران العتيقة، وكأنها تذكرنا أن الحياة ليست سوى مسرح دائم تتغير فيه الأدوار، وتبقى المشاعر تبحث عن منفذ للبوح.
"مساء الورد” ليست مجرد تحية عابرة، بل هي طقس يومي يرسّخ فينا طمأنينة الروح وسط ضجيج الأيام. الورد بألوانه المتعددة وعطره العابر يذكّرنا بأن الجمال، وإن كان مؤقتًا، كافٍ ليغسل عن القلب تعب النهار ويهديه سكينة صافية.
في الصحافة، نكتب عن السياسة والأرقام الباردة، غير أن لحظة المساء تعيدنا إلى إنسانيتنا الأولى، إلى الطفل في داخلنا الذي يفرح بابتسامة صادقة، أو برسالة قصيرة من صديق بعيد. إنها لحظة مصالحة مع الذات قبل أن نغلق دفاتر اليوم، فرصة للاحتفاء بالإنجازات الصغيرة والتعلم من الأخطاء الكبيرة.
المساء الأردني يحمل ملامحه الخاصة: رائحة القهوة تتسلل من البيوت، ودخان النرجيلة يعلو من المقاهي القديمة، وأصوات الأمهات وهن ينادين أبناءهن قبل أن يشتد الليل. كل ذلك ليس مجرد تفاصيل يومية، بل جزء من ذاكرة جماعية تصنع هوية المكان والناس.
وفي إربد، يصبح المشهد أكثر وضوحًا على لوحة شارع الرشيد ، أحد أقدم شوارع المدينة وأكثرها عراقة. هناك يمشي التاريخ على الأرصفة، حيث تعاقبت الأجيال على مقاعد أمام بوابات الدكاكين الصغيرة، وحيث اجتمع الناس للحديث عن قضايا تشغل احلامنا البسيطة .. ليحصلوا على لمحة من بهجة العالم الواسع.. روائح الخبز الساخن تمتزج بعربات الكعك، وأصوات الباعة المتجولين تملأ الشارع بحياة نابضة، بينما يلوّح أبوطلعت بيده للمارة بفرح عفوي. وما أن يهبّ الليل، حتى تعود ذكريات السبعينات حية: خطوات الطلبة العائدين من مدارسهم، وضحكات الشباب، وصخب الحياة الذي يشبه سيمفونية متناغمة.
وفي ليالي الصيف، تماما مثل هذه الأيام ، تتحول الأرصفة إلى جلسات سمر دافئة؛ يجتمع رجال الحي على كراسٍ خشبية، يتبادلون الحكايات والضحكات، ويناقشون السياسة وكأنهم في برلمان مصغّر.. الأطفال يركضون بين الأقدام، يضيفون أصواتهم الموسيقية إلى نغمة الشارع، بينما الصبايا العابرات يضفن بريقًا خاصًا: ملابسهن أنيقة وبسيطة تتناغم مع روح الزمن الجميل، وتسريحات شعرهن تشبه الحكايات القديمة، الغرة تتدلّى بخجل كأنها تتحدث بالنيابة عن اللسان، تروي أنوثة صافية بلا تكلف، وتترك أثرًا عميقًا في الذاكرة.
وإذا مرّ المارّ بدكان قديم على الرصيف، يلتقط الأذن صوت المطرب الراحل محمد عبد المطلب:
"السبت فات والحد فات وبعد بكره يوم التلات ميعاد حبيبي”..
الأغنية تنساب في الهواء، كأنها تربط بين ذاكرة المكان وذكريات كل من عاش لحظاته، لتتحول كل مساء في إربد إلى لوحة حية، موسيقى وحنينًا وروحًا لا تختفي.
في زمن تتسارع فيه الأحداث، نحتاج أكثر من أي وقت مضى لمثل هذه اللحظات البسيطة؛ لحظات نستعيد فيها هدوءنا، ونتذكر أن وراء الأزمات حياة تستحق أن تُعاش بروح متفائلة.
فليكن "مساء الورد” أكثر من تحية، وليكن رسالة محبة، جسرًا نمدّه للآخرين، ودليلًا على أننا ما زلنا قادرين على الإحساس بالجمال، حتى لو توارى خلف جدران السياسة والاقتصاد والمشاغل وتفاصيل كبيرة لها صلة بقوت الناس وخبزهم اليومي.