مقلق اليقين

كتب - رمزي الغزوي 

 أن ترى أبعد مما يرى الناس، ليس دائما منحة خالصة، بل قد يكون عبئا يرهق الروح. أن تلمح حفرة في منتصف الطريق فيما الجموع تهرول بثقة نحوها، يصفقون لبعضهم وكأنهم يتسابقون إلى الخلاص، تلك هي لعنة البصيرة. فالمثقف يولد هنا: كائن يملك عينين يقظتين في زمن يقدّس العمى ويكافئه.

  المثقف الحقيقي ليس صاحب رفوف تتكدس بالكتب، ولا هو حامل ألقاب ناعمة البريق. هو ذاك الذي اختار الهامش لا فرارا من الضوء، بل ليبقى قادرا على السؤال حين يوزع الإعلام والسياسة إجابات معلبة تشبه أرغفة خبز بائت. هو من نذر عقله لليقظة، وقلبه للأمانة، رافضا أن يكون ببغاء يردد ما يطلبه الجمهور.

كم مرة جلس بين جمهور يصفق لفكرة معطوبة؟ وكم مرة صمت لأن دهشته لا تخص أحدا سواه؟ يعرف أن التصفيق لا يقوده، وأن الحقيقة وحدها دليل خطواته، ولو جرحت قدميه، ولو تركته وحيدا في الساحة.

هو ليس نبيا ولا زعيما، بل شاهد قلق على ما يُباع في أسواق الوهم تحت عناوين براقة، وعلى ما يعاد تدويره من زيف قديم في أثواب جديدة. لا يخاف من تناقضاته، ولا من قلقه الوجودي، بل يجعله وقوده للسؤال، يفتح به النوافذ حتى لو بعثر أوراقه في الريح.

ولهذا لا يغفر له المجتمع كثيرا. يصفونه بالبرود حين يرفض الانجرار وراء هستيريا جماعية، ويتهمونه بالخيانة حين لا يلتحق بجوقة الهتاف. لكنه يمضي، لا تعاليا، بل وفاء لقسم قديم قطعه على نفسه: أن يصفق فقط للحقيقة، وإن جاءت وحيدة عارية بلا زينة.

القطيع يظل أكثر دفئا، أكثر انسجاما، لكنه أيضا أكثر هشاشة. والمثقف يراه ويفهمه ويحزن له، لكنه لا يلتحق به. لأنه يعرف أن البصيرة مسؤولية لا تلغى، وأن من يتراجع عنها يدفع ثمنا باهظا، فيروّض عينيه على النوم في حضن الزيف.

قد يكون المثقف مجهولا بلا أتباع ولا جماهير، لكنه يضيء زاوية مظلمة، ينفخ في جمر يوشك أن يخمد، أو يزرع سؤالا يقلق اليقين. أثره ليس في عدد المتابعين، بل في شجاعة أن يظل مبصرا حين يفضّل الجميع إغماض أعينهم.

 ويبقى السؤال معلّقا: هل تحتاج المجتمعات حقا إلى هذا الصوت المرهق الذي لا يهدأ؟ أم أن راحة الانسجام مع السرب أكثر إغراء وأبقى؟ وهل المثقف شاهد على مأساة تتكرر، أم بذرة لوعي لم يولد بعد؟