صليت مرتين في يوم واحد الاولى ليموت خالد والثانية ليحيا

كتب - جانتي نور الدين ابزاخ 

 الحلقة الاولى

يرويها لكم جانتي نورالدين ابزاخ ...

لم اجد تعبيرا افضل من جملة داني ياتوم مدير الموساد الاسبق عنوانا لحادثة اغتيال خالد مشعل في قلب عمان ، حرصت ان تكون الحكاية ممتعة وشيقة ، ولكن ان استفزت عقل عالق في قالب ، فلا اتحمل مسؤولية نزوات العقول وما توسوس به ...

قطة شرودنجر

اقبل عميل الموساد نحو الدكتور في الادب العبري " ميشكا بن دافيد " ... الجالس بهدوء يتصفح كتابا بجانب حوض السباحة في فندق الاردن كونتيننتال ، ادرك ميشكا بسرعة بحكم عمله رئيسا لقسم الاستخبارات في الوحدة التنفيذية للموساد ... ان وجه القادم لا يبشر بخير .

اخبره القادم وهو عميل في الفرقة الخاصة المكلفة باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل ان العملية نجحت و فشلت بنفس الوقت !!!

انه لغز ومحاكاة واقعية لتجربة الفيزيائي الكمومي ارفين شرودنجرالفلسفية ، حيث وضع قطة داخل صندوق مغلق مع زجاجة سم وجهاز يحتوي على ذرة واحدة مشعة قد تتحلل أو لا تتحلل . ان تحللت الذرة يتم كسر الزجاجة وتموت القطة ، نظريا تفترض التجربة ان القطة تكون في حالة حياة وموت بنفس الوقت لحين فتح الصندوق والتحقق ...

لندع مصير القطة ، ونحقق في مصيرخالد ، وماذا حدث ، وكيف ... والى اين ستنتهي الامور ..

سارع الدكتور ميشكا بابلاغ قيادة الموساد في تل ابيب بان اثنين من فريق كيدون للاغتيال ( جزء من وحدة تنفيذ الاغتيالات قيسارية ) وقعا في قبضة الامن الاردني بعد تنفيذ عملية الاغتيال بنجاح ...نعم نجح الاغتيال وفشلت العملية .

لم ينتظر بن دافيد كثيرا فقد سارع باخلاء اربعة عملاء من فرقة الاغتيال من شققهم بعمان واماكن تواجدهم الى السفارة الاسرائيلية ، فاصطحبهم بسيارات اجرة واحدا تلو الاخر كل على حدا الى الرابية ، مما سيزيد الحدث تعقيدا وسيجعل عمان في محور العالم لعدة ايام مقبلة .

وعلى الجانب الاخر في تل ابيب اتصل مدير الموساد داني ياتوم برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو واعلمه بفشل العملية وقال له " نحن في مشكلة " .

حصيلة العملية ، اثنان من عملاء الموساد في قبضة الامن واربعة داخل السفارة بعمان (صيد ثمين جدا) ... اما خالد حي وميت بنفس الوقت .

مشهد اثارة هوليوودي بعمان

قبيل ظهيرة يوم الخامس والعشرين من سبتمبر (1997) وفي حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحا ، وقف رجلان مريبان بملامح غربية يرتديان نظارات سوداء امام مركز الشامية التجاري بشارع وصفي التل والذي يضم بداخله مكتب حركة حماس ولكن تحت غطاء مركز المساعدة الفلسطيني .

ترجل رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل من سيارته امام المركز ، اقترب منه احد الرجلين وقام برش مادة في اذنه اليسرى بواسطة جهاز كان يخفيه داخل شاش طبي يلفه حول يده ، فشعر مشعل بما يشبه صعقة كهربائية بسيطة ، وحدث هرج ومرج .

اشتبك سائق سيارة مشعل مع الرجل فازاح يده بعيدا عن خالد ، في الاثناء ترجل " محمد ابو سيف " مرافق مشعل من سيارته ، وتوجه دون تردد الى احد الرجلين وركله ، فيما عمل السائق على اخلاء خالد وابنائه ، تمكن الرجلان من التخلص من " ابو سيف " . وهربا جرياباتجاه مطعم السروات القريب و " ابو سيف " في اثرهما .

عند المطعم توقفت سيارة سياحية زيتية اللون من نوع هونداي تحمل الرقم (5374 ) اعدت لمرحلة الاخلاء ، كان محركها يدور وسائقها خلف المقود على اهبة الاستعداد، قفزا الى السيارة وانطلقت بهموهم على يقين انهم تخلصا من ملاحقهم ، فاتصلا مباشرة بمحطة الموساد في امستردام المشرفة على العملية معلنين نجاح العملية .

ولكن كان لــ " ابو سيف " راي اخر ....

بسرعة بديهته وبحسن تدريبه اعترض ابو سيف سيارة بشكل عشوائي تعبر الشارع فاستوقفها وطلب من سائقها تذيل سيارة الرجلين . تابع سائق السيارة العشوائية ملاحقة سيارة الرجلين دون لفت الانتباه .

توقفت سيارة الهونداي قرب مسجد بشارع المدينة المنورة وترجلا منها ، مبتعدين عنا .

وهنا وقعت على رأسيهما مفاجاة لم يتوقعاها حتى في كوابيسهم ، انهم مطاردين ، ارتبكا وقطعا الشارع الى الناحية الاخرى .

ركض ابو سيف خلفهما ولفت نظره ان الشاش الذي كان يغطي يد احدهم قد اختفى ، فتوقع انهم تخلصوا من جميع ادلة العملية.

قال ابو سيف فيما بعد " لو علما انني الاحقهما لما اوقفا السيارة وكانت العملية نجحت ".

ادركهم ابو سيف في منظقة ترابية تمر منها عبارة ماء ، واندلع قتال عنيف بينهم ، اصيب ابو سيف بعدة ضربات بالة حادة على راسه فغطت الدماء وجهه ، ولكنه لم يستسلم فسارع الى ركل احدهم باتجاه العبارة ليتمكن من قتال الاخر الذي كان ضخم البنية ... كانا يقاتلانه لقتله .

تشاء العناية الالهية ان يظهر بين المواطنين المتجمهرين بالقرب من موقع القتال الضابط في جيش التحرير الفلسطيني بعمان سعد الخطيب ، نظر سعد باتجاه مدارس عمر المختار فوجد قتالاعنيفا وشخص بملامح عربية يصرخ ( يهود .. موساد ... يهود ... موساد ) . فانضم سعد الى القتال وانقض على الرجل ضخم البنية الذي كان على وشك قتل ابو سيف بحجر كبير كان يحمله .

تمكن سعد وابو سيف من الرجلين وسيطرا عليهما بمساعدة بعض المواطنين ، اوقفا سيارة اجرة واقتادوهم الى مركز امن بيادر وادي السير ، وهنا بدات تتكشف الخيوط الاولى للعملية . فمنذ الان لن يكونا بعد مجرد رجلين عاديين .

اتصل ابو سيف بمكتب حماس وابلغهم ان مهاجمي الشيخ مشعل معه وهم في طريقم الى اقرب مركز شرطة .

بالتزامن مع ذلك كان مشعل قد غادر رفقة سائقه ، واتصل باعضاء المكتب السياسي للحركة دعاهم الى اجتماع عاجل في منزل عضو المكتب السياسي محمد نزال .

ومن منزل محمد نزال سيبدا التاريخ بكتابة حادثة اشغلت الراي العام حول العالم لمدة 11 يوما، وستبقى تروى وتقرأ بكل زمن باحداثه ومفرداته ، ويعتبر منها اولوا الالباب حتى يومنا هذا .

الفرنسية تشيع بيان الاغتيال

والاردن الرسمي ينفي

سرد مشعل تفاصيل ما حدث معه وهو على يقينان لهذه الحادثة ما بعدها ، اتفقت اراء الحاضرين بان ما حدث عملية اغتيال غير تقليدية حيث لم تستخدم كواتم الصوت ويتطاير الرصاص وتسال الدماء ... ولم تظهر كذلك اي اعرض على خالد حتى حينه ، اما بالنسبة للجهة المنفذة ... قطعا الموساد الاسرائيلي، ليس لقادة حماس ترف التفكير بجهة اخر .

كان محمد نزال اكثر اعضاء المكتب السياسي وعيا بضرورة اصدار اعلان عن الحركة وبثه اعلاميا خوفا من لفلفة الحادث ، وامام اصراره وافق المجتمعون ، واتصل نزال بمراسلة وكالة الانباء الفرنسية بعمان رندة حبيب - بمن كان سيتصل مثلا غيرها -وصرح لها بان مدير المكتب السياسي للحركة خالد مشعل تعرض لعملية اغتيال من قبل جهاز الموساد الاسرائيلي ودعاها الى بث الاعلان من خلال الوكالة قبل ان يتم اخفاء الحقيقة وشرح لها بالتفصيل ما حدث .

ترددت حبيب في بث اعلان حماس وطلبت من نزال ان يكون الاعلان على لسان الحركة لابعادها عن المسؤولية ، ووصلت حبيب بحسهاالصحفي الاحترافي وهي من هي ، الى قناعة بان عملية الاغتيال حقيقية وليست دعائية ، فلو ارادت حماس تلفيق قصة لعملية اغتيال لن تكون بهذا التعقيد وانما ستكون بسيطة دون ذكر لجهاز غامض ورش محاليل ومطاردات ... غرابة القصة وتعقيدها اكدت قناعاتها فاتصلت بمركز الوكالة ونقلت اليهم ما توصلت اليه .

ما بين الساعة ( 11 - 12 ) قبل الظهيرة بثت وكالة الانباء الفرنسية واذاعت مونت كارلو الدولية خبر تعرض رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بعمان خالد مشعل لمحاولة اغتيال . الخبر الذي سيصل بسرعة الى اعلى المستويات في الاردن واسرائيل و يضع عمان تحت انظار العالم .

انهالت المكالمات على رندة حبيب من كبار المسؤولين ومنهم مدير المخابرات العامة سميح بطيخي ، وكانت المكالمات في نسق الضغط عليها لتقوم بنفي الخبر ، لم تقم بذلك وتعاملت بمهنية عالية واتاحت للاردن الرسمي كذلك ان يصرح وينفي كما يشاء من خلال الانباء الفرنسية .

الاعلام الرسمي الحكومي و كعادته التي يفضلها نفى الخبر على لسان وزير الاعلام سمير مطاوع ، وجاءت الرواية الحكومية ان ما حدث مجرد شجارعادي بين سائق خالد مشعل وسائحين اجنبيين !!! وان السائق افتعل الشجار ( تحركش ) معهم .

وكذلك اخبر مدير المخابرات بطيخي الصحفية حبيب باتصال هاتفيان ما حدث مجرد شجارفقط ، ولكن كانت قناعة رندة ان الامر ليس بالبساطة التي تحاول السلطات الاردنية اظهاره من خلال اعلامها .

وذكر مطاوع للاعلامي حميد عبدالله ببرنامج ( شهادات خاصة ) ... ان حبيب اتصلت به للحصول على رواية رسمية ، ولم يكن لديه علم باي شيء فقام بالاتصال بجميع المعنيين ولم يرد احد عليه ، وفي النهاية ابلغه مدير الامن العام بان ما حدث مجرد شجار " .

( طاردت لعنة الشجار مطاوع طيلة حياته ، مع العلم بانه لا يتحمل مسؤولية خبر النفي ومن يتحملها مدير المخابرات انذاك والمسؤولين الامنيين والسياسيين المعنيين .... وقال مطاوع ان الملك حسين برأه من ذلك حيث نقل مطاوع في نفس البرنامج ... ان الحسين قال ان مطاوع اخبر بما اخبروه به ، يمكن العودة الى اللقاء الذي عقده الملك مع عدد من الشخصيات بعد ايام من الحادثة واعلن خلاله عن بعض تفاصيل العملية ، وكذلك الى شهادة مطاوع في البرنامج المذكور ) .

(تكررت وقائع اعلامية مشابهة بعدذلك ايضا ومنها حادثة "صواريخ الكاتيوشا" عندما كان نبيل الشريف ناطقا باسم الحكومة و مثل هذه التصريحات الاعلامية العشوائية و المتسرعة ستظل تتكرر مستقبلا ، الامثلة كثيرة ولكنها ليست في نطاق قصتي هذه ).

خلال ذلك كان التحقيق الاولي مع الرجلين الذين اقتيدا الى مركز امن البيادر قد بدا و تبين انهما يحملان جوازات سفر كندية ولكن بعد استدعاء القنصل الكندي الى المركزنفى ان يكونا كنديين ، ومن ناحيتهم رفضا الحديث مع القنصل .

في منزل نزال بعيدا عن الاعلام والتاكيد والنفي المضاد ... بدأت اعراض مرضية غريبة تظهرعلى خالد ، شعوربالنعاس واعياء عام وعدم اتزان وخلل في الادراكوشحوب في الوجه ، فقرراعضاء المكتب السياسي نقله الى المستشفى الاسلامي في العبدلي ليبقى امنا تحت مراى من اعينهم ،فاصرار الحكومة على النفي لا يدعو للاطمئنان ابدا .

اوصلناه للقبر والان علينا ان نعيده

وصلت الاخبار من ميشكا بن دافيد في عمان الى رئيس الموساد داني ياتوم بتل ابيب الذي سارع بالاتصال مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وقال له " لدينا مشكلة " ... واخبره بما حدث على الارض الاردنية ، واعلمه ان لدى السلطات بعمان عميليين معتقلين ، اضافة الى اربعة مختبئين في السفارة ، والامور ستتفاقم سريعا ، وعاجلا ام اجلا ستنكشف امام السلطات الاردنية .

طلب نتنياهو من ياتوم السفر الى عمان فورا واستدراك الامر ...استقل مروحية اقلته الى عمان لاحتواء الموقف والسيطرة عليه ما امكن ، فقد ادرك الاسرائيليون انهم في مازق حقيقي والان سيكونون امام السياسي المخضرم المحنك الحسين وجها لوجه ، الحسين الذي ارهقوه في الشهر الثالث من نفس العام بعد حادث الباقورة ، فالفرصة حضرت اليه على طبق من ذهب ، ومن اقدر منه على رد الصفعة .

كانت بعض الاخبار غير المؤكدة حول الحادثة قد وصلت الى الحسين ، ولكن لم ينقص الحسين الذكاء ليتأكد من صحتها حال تلقيه نبا قدوم ياتوم لمقابلته .

التقى ياتوم باللواء بطيخي واللواء علي شكري مدير مكتب الملك والمكلف بالاتصالات السرية مع اسرائيل ، وابلغهم ياتوم بما حدث وقال " انا ارسلتهم الى عمان بموافقة نتنياهو واتحمل مسؤولية ذلك " ، لينضم اليهم الحسين الغاضب فيما بعد ويعيد ياتوم ما اخبرهم به .

( ذكر ياتوم بلقاء متلفز وفي كتابه " متاهة القوة " .... ان الملك لم يكن يعلم بالعملية وانه اي ياتوم من قام باخباره ).

انزعج الحسين وبغضبة ملك وجه حديثه الى ياتوم وقال جملته التي توقف عندها الحاضر و سيرددها التاريخ " ان عملية السلام معلقة بحياة هذا الاردني ، ان مات تموت المعاهدة " ... ابلغ نتنياهو بذلك .

لم يكتفي الحسين بذلك فهو في موقع قوة وبين يديه صيد ثمين ، عميلان للموساد في سجن المخابرات العامة واربعة مختبئين في السفارة ... فاتصل الملك بالرئيس الامريكي بيل كلينتون .

استمع كلينتون للحسين باستغراب ودهشة ولم يعلق بحرف ، وفي النهاية قال كلنتون " هذا انسان مستحيل " وبالطبع يقصد نتنياهو ومن غيره .

وعد كلينتون بالضغط على نتنياهو والاسرائيليين لانقاذ مشعل .... ( للمرة الاولى وربما الاخيرة عجز البيت الابيض والادارة الامريكية والدولة الامريكية برمتها بفعل اي شيء من اجل نتنياهو ، فوقف الجميع ضده) .

في مقر الحكومة الاسرائيلية بالقدس عقد اجتماع امني للتداول في الفوضى الذي احدثها الموساد بعمان ، وما كان امامهم سوى الرضوخ للضغوط الامريكية والاذعان لموقف الحسين الصلب فقال احد الوزراء " اوصلنا مشعل للقبر والان علينا ان نعيده " .

وقال داني ياتوم في كتابه لاحقا " صليت مرتين في هذا اليوم ، الاولى ليموت مشعل والثانية ليحيا " .

الساعة ( 00:00)

في نفس الليلة من يوم 25 سبتمبر الطويل والكثيف باحداثه تم استدعاء السفير الاسرائيلي المعين بعمان حديثا عوديد عيران الى القصر وابلغه الملك بمطالب الاردن والتي تمثلت باحضار الترياق المضاد للسم ، وكشف اسم المادة السامة وتركيبتها وتسليم الجهاز الذي استخدم (اداة الجريمة).

وصلت المطالب الاردنية عبر السفير الى نتنياهو الذي وافق على تسليم الترياق ولكنه رفض الافصاح عن المادة باعتبارها ثروة وطنية ، كما رفض تسليم الاداة المستخدمة...ستبقى الاداة الحلقة المفقودة واللغز الذي لم يحل بحادثة اغتيال مشعل حتى اليوم .

مساء يوم 25 سبتمبر (1997) الخالد في تاريخ الاردن ... اتخذ الحسين موقفا شجاعا وحاسما كعادته وبتطور متسارع وغير مسبوق للاحداث امر الحسين بحصار السفارة الاسرائيلية بالرابية وحدد الساعة ( 00:00) موعدا نهائيا للاستجابة لمطالب الاردن ... والا ستقتحم القوات الخاصة الاردنية السفارة وتلقي القبض على المجرمين المختبئين داخلها .

( ذكر آفي شلايم في كتابه اسد الاردن ان الحسين اوكل مهمة قيادة عملية الحصارالى نجله العقيد الاميرعبدالله ).

( في حديث لعلي شكري مع قناة الجزيرةذكر ان السفير قال له ... ان اقتحام السفارة مخالف لمعاهدات جنيفا ، ليرد عليه شكري بان جنيفا تحمي السفارات وليس سفارات بداخلها مجرمين ).

يتبع في الحلقة الثانية