التكنولوجيا والعزلة الاجتماعية.. هل نتجه نحو عالم افتراضي بلا تواصل بشري؟

مع تسارع التطورات التقنية وتغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية، يبرز سؤال ملحّ: هل نحن في طريقنا إلى عالم يقل فيه التواصل الإنساني حتى يكاد يختفي؟ هذا السؤال لم يعد افتراضياً أو مثيراً للفانتازيا، بل تحوّل إلى واقع ترصده الصحف العالمية، وتناقشه المنصات الفكرية، وتحذر منه الدراسات الاجتماعية.

وذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، إن الناس باتوا يفضلون بشكل لافت الاعتماد على الخدمات التي تقلل من الحاجة إلى التواصل المباشر ، في سان فرانسيسكو مثلاً، أظهرت دراسة أن الركاب ليسوا فقط مؤيدين لسيارات الأجرة ذاتية القيادة، بل على استعداد لدفع 50% إضافية والانتظار فترات أطول مقابلها، لماذا؟ الإجابة لا تقتصر على السلامة أو الكفاءة، بل تعود –كما تقول الصحيفة– إلى الرغبة في تجنب التحدث مع السائق البشري.

ولفتت الصحيفة نفسها إلى أن هذه النزعة تمتد إلى ماكينات الدفع الذاتي في المتاجر ، رغم صعوبتها وكثرة أعطالها، ومع ذلك تبقى الخيار المفضل لأنها تضمن "الهدوء" وتجنب الاحتكاك، الأمر نفسه ينطبق على صالونات الشعر التي تقدم الآن "قصات صامتة"، حيث يُتفق مسبقاً على غياب أي دردشة.

قدم الكاتب بولي هدسون في "الغارديان" صوراً واقعية تكشف عمق هذا الميل، أحد أصدقائه يزيل الفطر من طبقه الجاهز قطعة تلو الأخرى بدلاً من الاتصال بالمطعم وطلب إلغائه، زميلة له كادت تتعرض لموقف محرج في الطائرة لأنها رفضت أن تطلب من جارها السماح لها بالمرور إلى دورة المياه، خشية أن يفتح ذلك باباً للحوار.

هذه القصص اليومية، كما تقول الصحيفة، لم تعد شاذة أو غريبة، بل ينظر إليها كثيرون على أنها قرارات "منطقية".

التهرب من الحديث

بحسب الصحيفة البريطانية، طوّر الناس أساليب شتى لتفادي المحادثات: التظاهر بالانشغال بالهاتف، وارتداء السماعات، والمشي السريع، أو حتى اصطناع ملامح القلق والحزن، إلا أن اللحظات المثالية تحدث حين يلتقي شخصان لا يرغبان في الكلام فيتجاهلان بعضهما ببساطة دون اتفاق مسبق.

وتصف الصحيفة هذه اللحظة بأنها "رابطة صامتة، ثمينة وهشة، لكنها تعبّر عن روح زمن يتجنب التواصل".

وعلى الجانب الآخر، تناولت منصة "ميديوم" الأمريكية الموضوع من زاوية أكثر اجتماعية، يروي أحد الكتّاب أنه خرج من البقالة ليجد نفسه لم يتبادل أي كلمة مع أحد طوال فترة التسوق، بعدما اعتاد الدفع الذاتي، بالنسبة له، لم يعد الأمر مجرد توفير وقت أو تفادي طوابير، بل انعكاس مباشر على تراجع مهاراته الاجتماعية.

ويضيف الكاتب: "لم أعد أفكر حتى في المحادثة البسيطة مع أمين الصندوق، تلك الجملة العابرة عن الطقس أو عن يوم العمل، والتي كانت تفتح مجالاً للاعتراف المتبادل بإنسانيتنا".

وبحسب المنصة، تشير الإحصاءات إلى أن العزلة الاجتماعية في أمريكا تضاعفت منذ الثمانينيات، وأن عدد من يقولون إن ليس لديهم أي صديق مقرّب ارتفع ثلاثة أضعاف منذ 1985، والأخطر أن الإجابة الأكثر شيوعاً اليوم على سؤال "كم لديك من أصدقاء مقربين؟" هي: صفر.

مؤشرات اقتصادية وثقافية

كما أوضحت "ميديوم"، فإن انتشار الدفع الذاتي وأتمتة متاجر التجزئة يضاعف من هذه العزلة، إذ تسعى المتاجر الكبرى لرفع نسبة استخدام الدفع الذاتي من 30% إلى 70%.

وتقدم متاجر مثل "أمازون جو" نموذجاً كاملاً للتسوق بلا أي تواصل بشري: الدخول، وأخذ المشتريات، والخروج، النتيجة: جيل من "المتسوقين الصامتين" الذين لا يرون في الحوار قيمة حقيقية.

لكن الأمر لا يتوقف عند المتاجر، فوفقاً للمنصة نفسها، فإن العزلة تقترن بتداعيات صحية خطيرة: تراجع صحة القلب والدماغ، وزيادة الاضطرابات النفسية، وهو ما يجعل من أي محادثة عابرة -حتى في طابور الدفع- خطوة صغيرة لكنها مهمة للحفاظ على الروابط المجتمعية.

أما صحيفة "التآخي" العراقية فقد تناولت الموضوع بزاوية أشمل، مؤكدة أن للتكنولوجيا تأثيرات متشابكة على العلاقات الاجتماعية، منها الإيجابي ومنها السلبي، فمن الإيجابيات -كما ذكرت الصحيفة- أنها تتيح التواصل مع الأصدقاء والعائلة عبر تطبيقات المراسلة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتمنح الفرصة للتعرف على أشخاص من ثقافات أخرى، وتساعد في بناء مجتمع عالمي أكثر ترابطاً.

لكن الوجه الآخر للعملة هو الإفراط في استخدام هذه الأدوات، ما قد يقود إلى العزلة والانفصال عن الواقع، وتراجع مهارات التواصل المباشر، بل وحتى انتشار التنمر الإلكتروني والتحرش، وهي ظواهر باتت تهدد الصحة النفسية للأفراد.

التوازن هو الحل

أوضحت "التآخي" أن الحل لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في استغلالها باعتدال ووعي، فهي أداة يمكن أن تدعم التعليم، كما في التعلم عن بعد والمنصات التعليمية، وتساعد في تحسين الصحة عبر الأجهزة القابلة للارتداء، وتخلق فرص عمل جديدة في مجالات البرمجة والتجارة الإلكترونية، لكنها في الوقت نفسه قد تُضعف الروابط الأسرية وتزيد من المقارنات السلبية على منصات التواصل.

والخلاصة، إذا كانت حقوق الإنسان تقوم على الكرامة والاعتراف بالآخر، فإن الميل نحو العزلة المطلقة يهدد أحد أبعاد هذه الكرامة، فالعزلة ليست مجرد خيار شخصي، بل لها انعكاسات على الصحة العامة وعلى تماسك المجتمع.

وكما يطرح الفيلسوف كوامي أبياه في كتابه "العالمية"، فإننا مدينون للغرباء بشيء ما بحكم إنسانيتنا المشتركة.

وبحسب "ميديوم"، فإن مجرد إيماءة أو ابتسامة أو جملة عابرة عند طابور الدفع قد تكون أكثر من مجاملة، إنها شكل من أشكال الاعتراف بالإنسانية المشتركة.

فإذا واصلنا الانسحاب من التفاعل البشري، قد نجد أنفسنا في عالم مريح لكنه فارغ، مليء بالآلات والذكاء الاصطناعي، لكنه يفتقر إلى الدفء الإنساني، أما إذا وعينا لأهمية التوازن، فقد ننجح في استخدام الأدوات الحديثة لتعزيز إنسانيتنا، لا لإضعافها.