
من القتل إلى البطولة: كيف غيّر «العراب» مفهومنا للخير والشر؟
إنهما يديران محلات بغاء وقاتلان وزعيما عصابة إجرامية ضخمة ويأخذان أتاوات من محلات، ولكن على الرغم من ذلك، فإن المشاهد معجب بهما، إلى درجة أنهما أصبحا من رموز الثقافة العالمية. هل هذا ممكن؟ نعم إنه ممكن جدا، ولكننا لا نتكلم هنا عن شخصيتين حقيقيتين، فليس الشخصان المقصودان سوى «دون كورليون» وابنه «مايكل كورليون»، اللذين كانا الشخصيتين الرئيسيتين في فيلم «العراب» The Godfather (1972) وأدى دوريهما مارلون براندو وآل باتشينو. وكان أداؤهما لهتين كافيا لجعلهما من أشهر نجوم السينما العالمية على الإطلاق. ولكن كيف استطاع المؤلف والمخرج إقناع المشاهد بأن يصبح من المعجبين بهاتين الشخصيتين؟
لصناعة السينما هدف بسيط جدا، ألا وهو جذب المشاهد للوصول إلى ماله وعقله. ولتحقيق ذلك، تقوم صناعة السينما بالكثير من الخدع النفسية لجعل المشاهد يعجب بشخصيات العمل السينمائي، ويشعر بأنها قريبة منه ويشاركهم آراءهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، من دون أن يدرك أنه وقع ضحية عملية تلقين نفسي متقنة من قبل صانعي الفيلم. وما يساعد على ذلك كون عقل المشاهد مركزا على الفيلم، الذي يؤثر عليه من الناحيتين المرئية والصوتية، حتى إن المشاهد يدخل عالم الفيلم، حيث ينسى واقعه ويتغير تقديره للمنطق ليتبنى منطق الفيلم، وما يساعده على ذلك معرفته أنه لن يتعرض للأذى وسط الصراعات الدموية التي تدور في الفيلم، فهو مجرد فيلم في نهاية المطاف. ولتوضيح ذلك من الممكن أخذ فيلم «العراب» كمثال حيث يعده الكثيرون أحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، إن لم يكن الأعظم على الإطلاق.
كان فيلم «العراب» مليئا بالخدع النفسية للسيطرة على عقل المشاهد منذ بدايته، فيظهر «دون كورليون» في المشهد الافتتاحي للفيلم حاملا قطة، على الرغم من أن هذا لم يكن موجودا في الرواية الأصلية. ولم يكن ذلك مجرد صدفة، فمارلون براندو وجد قطة ضالة في الاستوديو، فحملها وجعلها جزءاً من الفيلم كما أدعى البعض، الحقيقة أن المشاهد الذي يتعاطف مع الحيوانات تؤثر فيه هذه المشاهد ويتعاطف معها بشكل لا إرادي، وبذلك كسبت شخصية «دون كورليون» إعجاب المشاهد منذ اللحظة الأولى، من دون أن يشعر المشاهد بأنه خُدِع. وبالمناسبة أن رجال المافيا الحقيقيين يعاملون الحيوانات بخشونة. ويلي ذلك مشهد تلبية دون كورليون لطلبات الناس العاديين للانتقام مِمَن اعتدى عليهم، من دون وجه حق. ولا يحتاج «دون كورليون» لمعرفة مدى صدق ادعاءات هؤلاء الناس، فهو يلبي طلباتهم فورا متحملا كل المسؤولية والعواقب الناجمة عن ذلك. ويعد هذا خدعة قديمة لجذب المشاهد، فالكثير من الناس يتمنون الانتقام من شخص ما، ولكنهم طبعا يخشون النتائج المترتبة على ذلك. ولهذا السبب يتمنى الكثير من الناس لقاء شخص مثل «دون كورليون» ليطلب منه تنفيذ انتقامه بالنيابة عنهم، متحملا المسؤولية.
وفي الوقت نفسه يتمنى الكثير من الناس أن يكونوا مثل «دون كورليون» نفسه حيث يخشاهم الجميع ويستمتعون بثروة هائلة، حتى إذا كان مصدرها عالم الإجرام. ومن المشاهد الأولى للفيلم يكتشف المشاهد بسرعة أن «دون كورليون أب لثلاثة أبناء وابنة، وأن الجميع في حالة فرح بسبب حفلة زواج ابنته. وهذه الخدعة قديمة، إذ يتعاطف الجميع مع الأب الكبير في السن، الذي يحاول حماية أولاده من الأذى، ويسعد لزواج ابنته، ويحاول أن يجعل من ابنه مايكل شخصية سياسية كبيرة تتمتع باحترام بالغ من قبل المجتمع، من دون الكشف عن سبب عدم رغبته بالمثل تجاه ابنيه الآخرين. وقد استعملت صناعة السينما الأمريكية هذه الخدعة في أفلام وأعمال تلفزيونية كثيرة كان أشهرها مسلسل «بونانزا» حتى إن البعض اتهم مؤلف رواية «العراب» أنها في الحقيقة مسروقة من ذلك المسلسل.
يتكلم الممثل مارلون براندو (دون كورليون) طوال الفيلم بلهجة راقية ويتصرف بشكل لائق، وكأنه ملك، وليس زعيم عصابة إجرامية ويرفض الدخول في تجارة المخدرات، يا لطيبته! وفي الحقيقة أن المخرج لم يكن يحاول أن يصور فيلم عن العصابات أصلا، فعندما شكا الممثل أَيب فيغودا، الذي أدى دور «تسيو» في الفيلم، أن رجال العصابات لا يتصرفون بهذا الشكل أجابه المخرج أن يتخيل نفسه في فيلم عن روما القديمة، حيث كانت العوائل البارزة تتصارع في ما بينها. ولم يكن المظهر الراقي محض صدفة، بل خدعة مقصودة، فالمخرج فرانسيس فورد كوبولا كان يعلم جيدا أن الجمهور ينجذب إلى الشخصية الرقيقة الراقية البالغة الثقة بنفسها. ومما زاد من تأثير الفيلم اللقطات المقربة على وجوه الممثلين وكأنه يتحدث إليهم مباشرة. ويصبح المشاهد متابعا لأحداث الفيلم من وجهة نظر الشخصية السينمائية، وبالتالي يؤيده في جميع أفكاره، وتستمر الخدع النفسية بمحاولة اغتيال «دون كورليون»، إذ يشاهد الجميع ذلك الأب الصالح وهو يتهاوى على الأرض ما يثير شفقة المشاهدين، ثم يحاول ابنه المخلص مايكل حمايته في المستشفى. وتتكرر الخدعة في مشهد مقتل زوجة مايكل في صقلية. وبذلك يؤيد المشاهد ما يفعله «دون كورليون» وابنه «مايكل» في كل أعمالهم الإجرامية، فهما ليسا مجرمين بالنسبة للمشاهد، بل يحاولان حماية العائلة والأطفال، وإذا اتهمهما شخص ما بالإجرام، فهذا ليس إجراما، بل هو دفاع عن النفس في حياة قاسية أجبرا على الدخول فيها بسبب ظروفهما.
ولكل منهما زوجة صالحة حتى إن مايكل يتزوج فتاة أمريكية جميلة من أصول أوروبية غربية، ويعبر عن رغبته باستمرار لترك حياة العصابات والدخول في الحياة العادية، أي أنهما كانا يحاولان تأسيس عائلة عادية صالحة. وجميع ضحايا دون كورليون وابنه مايكل من المجرمين، حيث إنهما لا يؤذيان الأبرياء، وحتى الفتاة التي يقتلونها في المبغى للإيقاع بعضو في مجلس الشيوخ، فإنها لم تكن ذات أهمية لأنها كانت بالنسبة للفيلم ببساطة عاهرة. وأما عضو مجلس الشيوخ، فقد استحق كل ما حدث له، لأنه كان فاسدا حيث طالب برشوة من مايكل، وشتم الأمريكيين من أصول إيطالية.
في نهاية المطاف ينتصر «دون كورليون» ومايكل في صراعهما مع زعماء العصابات المنافسة بقتلهم جميعا. وبذلك ينتصر الحق على الباطل ويصفق المشاهدون لانتصار البطل المغوار. ولكن هل فعلا انتصر الحق؟ كلا بالتأكيد، إن عصابة كورليون ليست أقل شرا من العصابات الأخرى، ولم تنتصر لأنها تدافع عن الحق، بل لأنها أكثر قسوة وجرأة من أعدائها، أي أنها في الحقيقة أسوأ منهم. ولكن هذا غير مهم بالنسبة للمشاهد، فهم أبطال لجهله أنه في الحقيقة واقع تحت سيطرة صانعي الفيلم دون علمه. وبذلك، فإنهم يملون عليه من يحب أو يكره، على الرغم من انعدام المصلحة هنا، فلن يكون المشاهد أفضل حالا ماديا أو اجتماعيا، إذا انتصر أعداء عصابة كورليون.
وعلى الرغم من أن المشاهد يظن أنه تخلص من تأثير الخدع النفسية في الفيلم عند نهايته، فإنه على أخطأ لأن رأيه في الفيلم استقر في عقله، وسيمدح الفيلم أمام الجميع وتستمر المعايير التي فرضها عليه الفيلم في دماغه. ويعني هذا أن مفهوم الحق والباطل لدى المواطن العادي مفهوم مطاطي جدا، وبالإمكان التأثير عليه وقيادته دائما.
لم يكن لفيلم «العراب» أي علاقة بالمافيا الحقيقية وشخصياتها البارزة. وقد اختلق الإعلام علاقة وهمية بينهما، مثل الادعاء أن بعض الممثلين الثانويين كانوا أعضاء في المافيا، حيث أرسلتهم العصابات لمراقبة سير الفيلم. وصحيح أن بعض صغار أعضاء العصابات عملوا كممثلين ثانويين، ولكن ليس لمراقبة الفيلم والسيطرة عليه، بل لكسب المال، فعصابات المافيا لم تكن أبدا قوية، إلى درجة أن تؤثر على سياسة صناعة الأفلام. ولكن الفيلم اقتبس بعض القصص المعروفة عن المافيا مع بعض المبالغات، فمثلا كانت شخصية المغني الذي طلب مساعدة «دون كورليون» مأخوذة من علاقة شهيرة للمغني فرانك سيناترا بعصابات المافيا. وحسب مؤلف الرواية، أثار ذلك غضب فرانك سيناترا ودخل في مشادة كلامية مع المؤلف، إلا أنه لم يستطع عمل أكثر من ذلك. وأما قيام «مايكل كورليون» بقتل رجل العصابة المنافس مع ضابط الشرطة في المطعم، فكانت مأخوذة من عملية اغتيال أحد كبار رجال العصابات في عملية دبرها زعيم العصابة الشهير جاكي لاكي لوتشيانو، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الحادثة الحقيقية أفضل بكثير من الناحية المنطقية، ووقعت الحادثة الحقيقية عندما كان لوسيانو مع أحد زعماء المافيا في مطعم، وذهب إلى الحمام.
وفي أثناء غيابه دخلت مجموعة من رجال العصابات المطعم، واغتالوا الزعيم المقصود. وعندما أتت الشرطة أثبت لهم لوسيانو أنه لم يكن موجودا، فعصابات المافيا لا يمكن أن تغتال رجل شرطة، ولا يقتل زعيم عصابة مافيا أحدا بنفسه، لاسيما أمام الناس وفي مطعم. وعندما أتت الشرطة أثبت لهم لوسيانو أنه لم يكن موجودا. أما من ناحية كون «دون كورليون» ضد تجارة المخدرات لأنها تجارة قذرة، فهذا محض هراء لأن أغلب عصابات المافيا كانت تسيطر على هذه التجارة أصلا. وأما عن منع بعض عصابات المافيا لأعضائها من تجارة المخدرات لفترة قصيرة، فلم يكن ذلك لأنها تجارة قذرة، إذ جميع عمل المافيا قذر، بل لأنها شعرت بسهولة القبض على من يتاجر بها مما يعرض العصابة بأكملها للخطر.
من أسباب شعبية أفلام المافيا أنها تعرض المافيا وكأنها حكومة ذات مناصب وموظفين، ما سهل على المؤلفين الكتابة عنها، وبالتالي إنتاج أفلام عنها حتى ظن الكثيرون أن عصابات المافيا هي العصابات المنظمة الوحيدة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولأنها عصابات أغلب أفرادها من الإيطاليين ارتبطت سمعة الإجرام بالإيطاليين. وكان ذلك من حسن حظ الممثلين والمخرجين ذوي الأصول الإيطالية، حيث وفرت لهم فرص عمل في مجال عمل قلت فيه الفرص الجيدة، وبذلك أصبح بعضهم من مشاهير الممثلين مثل روبرت دي نيرو ومارتن سكورسيزي وجوبشي وغيرهم.