"بناء العقل الثاني" يواجه أخطار التكنولوجيا وإدمان الإنترنت

بناء العقل الثاني" أطروحة مهمة للأميركي تياجو فورتي صدرت حديثاً في ثوبها العربي بترجمة المصرية حنان شافعي. تقدم الدراسة طوق نجاة للإنسان المعاصر من دوامات التكنولوجيا والمعلومات المشتتة وإدمان الإنترنت، وتقترح أساليب فعالة مبتكرة لتنظيم الحياة الرقمية، وإطلاق العنان للإبداع، وتأصيل فن إدارة المعرفة، وتعميق التركيز، ومضاعفة الإنتاجية، وتحويل الأفكار إلى إنجازات.

هل يعني أن يبني الإنسان عقلاً ثانياً أنه سيبتدع عقلاً آخر آلياً موازياً، وأنه سيهمل عقله الأصلي ويقلص قدراته الطبيعية ويحجمها في أضيق الحدود؟ لا يقصد الكاتب والباحث الأميركي تياجو فورتي هذا المفهوم في دراسته "بناء العقل الثاني - طريقة مجربة لتنظيم حياتك الرقمية وإطلاق العنان لإبداعك"، التي صدرت حديثاً نسختها العربية في كتاب بترجمة الشاعرة المصرية حنان شافعي، عن دار "صفصافة" للنشر في القاهرة.

 

إن ما يريده المؤلف الأميركي المدرب البارز وخبير الإنتاجية العالمي، ببناء العقل الثاني هو ببساطة تشكيل العقل الأول نفسه من جديد، وإعادة تشغيله والتعامل اليومي معه وفق نظام خاص شخصي لإدارة المعلومات والمعرفة والتفكير وتفاصيل الحياة كلها.

وهذه البنية العقلية الجديدة هي بمثابة تأسيس مستودع منظم داخل الرأس للتعاطي مع سائر الأفكار والملاحظات والأشغال والإبداعات وغيرها باتزان وحكمة. ويتم ذلك من دون الارتباك الذي قد يصيب العقل البشري الاعتيادي بسبب أخطار التكنولوجيا وتداعيات الثورة الرقمية وطوفان البيانات المتلاحقة وإدمان الإنترنت وغيرها من أمراض العصر وأزماته المستجدة المستعصية التي تؤثر سلباً في جودة الحياة، خصوصاً لدى الصغار والناشئة والمراهقين، وتفقدهم هويتهم المستقلة وثقتهم بأنفسهم.

الإمكانات الجوهرية

ما قيمة التدفق المعلوماتي الضخم الذي يحاصر الإنسان كل لحظة من كل جانب، ولا يقدر على الاستفادة منه؟ وكيف ينجو العقل من هذه المتاهة، ومن هذا الضياع، ومن هذا التشتت الانفجاري، بما قد يحويه من تضليل وأخبار مغلوطة وموجهة وكاذبة؟

هنا، في كتاب تياجو فورتي، على العقل الأول أن يعاد بناؤه كعقل ثانٍ قادر على التحصن والحماية والتنظيم والإدارة واكتشاف الإمكانات الجوهرية للأفكار والمواهب والقدرات والطاقات الذاتية الظاهرة والخفية للفرد، بوصفها ثرواته الحقيقية الدائمة.

ويطرح المؤلف في كتابه الرائج الذي ترجم إلى 20 لغة منهجه الإنساني في فن إدارة المعرفة والإبداع عبر العالم الرقمي من خلال مجموعة من المبادئ التي تبلور آليات بناء العقل الثاني وترتيب العلاقة بمصادر المعرفة ومنصات التواصل والمدخلات المتنوعة.

ويقود منهج تياجو فورتي في كتابه، الذي يقع في 300 صفحة إلى الانسجام الذهني والشعور بالقوة وامتلاك التركيز والقدرة على الإنجاز المتواصل وتغذية مهارات التدوين والتلخيص والأرشفة وتعزيز ملكات الإبداع، بدلاً من الإحساس بالإرهاق والعجز أمام سيل المعلومات الجارف.

من الاكتناز إلى المشاركة

يوضح تياجو فورتي فلسفته في بناء العقل الثاني عبر 11 مبحثاً، هي فصول الكتاب. ويتناول فيها أساسيات إنشاء العقل الثاني، وكيفية عمله، وسبل الاقتناص والتنظيم والتنقيح والتعبير، ووسائل التحول وفنون التنفيذ الإبداعي، والعادات الرئيسة للتنظيم الرقمي، ومسارات التعبير عن الذات، وغيرها من الركائز التي يستند إليها نظام بناء العقل الثاني وتفعيله والاستفادة منه.

وغاية استعمال العقل الثاني في نظرية تياجو فورتي هي أن يتحول الإنسان من مجرد مستهلك سلبي ومتوتر ومرتبك إزاء آلاف الكتب والمقالات والبودكاستات ومقاطع الفيديو من دون جدوى، إلى متفاعل إيجابي مع المعارف المكتسبة كلها، مع إمكانية تطبيقها عملياً على أرض الواقع، إضافة إلى أن يصير الإنسان مبدعاً، يمتلك وجهة نظر، ويسهم بصورة مثمرة في العملية الإنتاجية المتفوقة وتحقيق الأهداف وبلوغ أقصى الطموحات.

هذا الإنسان، صاحب العقل الثاني، لا يكتفي باكتناز المعلومات وتخزينها التجميعي التراكمي، بل يسعى إلى أن يشارك في صناعة المحتوى المعلوماتي والمعرفي القيم والموثوق به من خلال خبراته وتجاربه الشخصية المتفردة وموهبته الإبداعية في إطلاق الفعل. ولا يتحقق هذا التخليق الثري للأفكار والإنجازات والمشاريع إلا بالتلقي الصحيح المرتب والممنهج في بداية الأمر، من خلال أعمال منظومة العقل الثاني التي تتحكم في المدخلات الواردة إلى مستودع الرأس.

وصفات وكبسولات

إلى جانب وضوح أفكاره ودقتها وسلاستها فإن تياجو فورتي يبدو حريصاً على تلخيص وصفاته الثقافية في صيغة كبسولات شيقة يسهل تداولها على نطاق واسع في محيط الجمهور العام، من غير الحاجة إلى مهارات خاصة للتلقي. وهو، بهذا التوجه، يكاد يحول دراسته حول العقل الثاني إلى دليل إرشادي يشتمل على كل ما يتعلق بهذا العقل، وإمكاناته غير المحدودة.

تحت هذه المظلة يأخذ تياجو فورتي قارئه إلى أبجديات إدارة المعرفة والمعلومات وتنظيم الأفكار وتحقيق الأهداف وزيادة الإنتاجية وإطلاق الإبداع وتنفيذ المشاريع بكفاءة وتعزيز الفعالية الشخصية وتحسين جودة الحياة بصفة عامة.

ويتطلع المؤلف إلى أن تكون دروسه ومبادئه راسخة وصالحة للتطبيق بالنسبة لأي شخص بشرط أن يكون موقناً بأن لديه نظاماً موثوقاً يتتبع كافة التفاصيل التي تهمه، هو نظام العقل الثاني. وكلما بدأ الإنسان أسرع في بناء هذا النظام، كلما مضى أسرع في طريق تحسين شخصيته وحياته. وهكذا يصير بالإمكان "قضاء وقت أقل في البحث عن الأشياء، ووقت أطول في القيام بأفضل الأعمال وأكثرها إبداعاً".

خلفيات فكرية

وعلى رغم ما يوحي به كتاب تياجو فورتي من بساطة، فإن المؤلف يرتكز في نظريته حول بناء العقل الثاني على دراسة عميقة أمضى فيها سنوات طويلة، متتبعاً كيف أدار المفكرون والكتاب والفنانون والمبدعون غزيرو الإنتاج عملياتهم الإبداعية في الماضي، كما يتقصى الباحث بعناية كيفية استخدام البشر للتكنولوجيا في تعزيز قدراتهم المعرفية الطبيعية.

ويعمل العقل الثاني في فلسفة الباحث الأميركي باعتباره أفضل مساعد شخصي في العالم. وثمة ميكانيزم لتفسير كيفية عمله، كمتصف دائماً بالأمانة المطلقة، وجدير بالثقة تماماً، ومستعد ومنتظر في كل الأحوال لالتقاط أي قدر من المعلومات التي قد تكون ذات قيمة لصاحبها. ووفق هذا الميكانيزم، فإن هناك أربع قدرات أساسية يمكن الاعتماد على العقل الثاني لأدائها، هي "جعل الأفكار ملموسة، والكشف عن روابط جديدة بين الأفكار، وتطوير الأفكار مع مرور الوقت، وصقل وجهات النظر الخاصة".

أما العادات الأساسية للتنظيم الرقمي، التي تؤسس فلسفة بناء العقل الثاني، وتقود إلى خلق عقل منظم وشخص منظم مستعد دائماً لإنتاجية مستدامة، فيبلورها المؤلف في ثلاث نقاط محورية "قوائم مراجعة المشاريع، تأكد من بدء مشاريعك وإنهائها بطريقة متسقة والاستفادة من خبراتك السابقة، والمراجعات الأسبوعية والشهرية، راجع عملك وحياتك باستمرار وقرر ما تريد تغييره، وعادات الملاحظة، لاحظ الفرص الصغيرة التي تتاح لك لتعديل المحتوى الذي تحتفظ به أو تنسيقه ونقله لجعله أكثر قابلية للاكتشاف في المستقبل".

وتبقى هناك أربع خطوات لإتمام منهج بناء العقل الثاني، يوردها تياجو فورتي في هيئة سلسلة من التوصيات لقارئه الحميم على هذا النحو "اقتنص، احتفظ بما يتردد صداه داخلك، نظم، امنح الأولوية للأشياء المفيدة عملياً، نقح اعثر على الجوهر، عبر، شارك عملك مع الآخرين". وبمنظور الباحث الأميركي المتمرس، فإن من أعظم مكاسب بناء العقل الثاني "التحول من رؤية العالم من خلال عدسة الندرة إلى رؤيته من خلال عدسة الوفرة".