"عشبة ومطر" تتصدى للتغريب والانسلاخ عن التراث

من خلال تقنية الحوار أفسحت الكاتبة مساحات للتعبير عن أيديولوجيات مغايرة، لا يتمسك أصحابها بالنهج نفسه في المحافظة على التراث والهوية، وإنما يسهمون في ضياعهما عبر الانجراف خلف ما يظنونه تمدناً وحداثة.

لإدراكه الصلة الوثيقة بينهما استهدف المستعمر في الحقبة الإمبريالية اللغة الأصلية للشعوب التي احتلها لطمس هويتها ومحو ثقافتها وتاريخها.

 

وعلى رغم فشل الغزو العسكري في تحقيق هذه الغاية داخل عديد من المجتمعات العربية فإن ثمة نوعاً آخر من الغزو أخذ يتسلل في نعومة عبر محاولات التغريب، التي عادت لتستهدف اللغة على نحو يهدد الهوية. هذا التهديد دفع الكاتبة الإماراتية وداد خليفة إلى دق ناقوس الخطر في روايتها "عشبة ومطر" (دار العين) التي حصدت أخيراً جائزة العويس للإبداع.

 وفيها ترصد الكاتبة محاولات بطليها (أم وابنها) التشبث بالجذور والتمسك بالهوية، وسط زخم من التغيرات والطفرات الاجتماعية التي تنذر بهدم الخصوصية الثقافية والمنظومة القيمية.

اعتمدت الكاتبة نسقاً أفقياً تخللته ومضات من الفلاش باك، في سرد "ما بعد حداثي"، وزعت أصواته على شخوصها المحورية: "عشبة" و"مطر" و"تريزا". وفي المرحلة الأخيرة من رحلتها السردية سمحت لصوت "غاية" بالظهور عبر مذكراتها، التي عثر عليها "مطر" وقادته إلى امرأة أحلامه، التي انتظرها أكثر من أربعة عقود.

واتسق أسلوب السرد الذي يعتمد على رواة متعددين مع تنوع الأيديولوجيات والخلفيات الثقافية والعمرية للشخوص. فبينما كانت "عشبة" رافداً لجيل الآباء المتمسك بجذوره والمحافظ عليها، كان "مطر" امتداداً لهذا في جيل الأبناء، في حين مثلت "تريزا" الحضور الآسيوي القوي في المجتمع الإماراتي عبر العمالة الوافدة.

ومن خلال تقنية الحوار أفسحت الكاتبة مساحات أخرى للتعبير عن أيديولوجيات مغايرة، لا يتمسك أصحابها بالنهج نفسه في المحافظة على التراث والهوية، وإنما يسهمون في ضياعهما عبر الانجراف خلف ما يظنونه تمدناً وحداثة.

وبرزت عبر هذا التنوع صور جلية من التناقض والتقابل، لا سيما بين التواضع والاستعلاء، والبر والعقوق، والأصالة والتغريب، والتمسك بالهوية والانسلاخ عنها، والثبات على القيم والعادات، والانصياع لسطوة التحول لثقافات جديدة ودخيلة: "ما هذه العادات الدخيلة علينا، منذ متى ونحن نحتفل بـBridal Shower قطع علينا الحديث دخول حفيد فطيم ذي السنوات الخمس. حاولت ملاطفة الطفل والحديث معه إلا أنه لم يتفوه بكلمة، بل أخذ ينظر إليَّ تارة وإلى جدته فطيم تارة أخرى، والتي لم يكن منها إلا أن حضنت الطفل قائلة: يا عشبة إنه لا يتحدث العربية".

قضايا عربية

عبر تقابلات صارخة تسلل الصراع بين قطبين، أحدهما مرئي يتمثل في المتمسكين بجذورهم، والآخر مخفي وإن بدا تأثيره في سلوك عام يشي باللامبالاة بمرتكزات الهوية، بل ويتعاطى مع التخلي عنها كنوع من التأنق والوجاهة الاجتماعية.

وفي خلفية السرد تجلى تاريخ من الصراعات بين القوى الاستعمارية والشعوب المحتلة، لا سيما العربية التي تجرعت أشكالاً من الذل والمعاناة، حتى ظفرت باستقلالها.

 كذلك برز الصراع في العوالم الداخلية للشخوص، فاحتدم في دواخل "عشبة" التي انقسمت بين جنوح للعزلة، واضطرار إلى الانخراط في المجتمع لمقاومة التحولات السلبية، بين الشعور بالاغتراب والشعور بالمسؤولية والاستسلام لليأس وصمود المقاومة.

وبالمثل حصل "مطر" على نصيبه من الصراع الداخلي، لا سيما بين رغبته في الزواج إرضاءً لأمه، وعزوفه عنه إرضاءً لروحه التي تبحث عن نصفها المفقود. وعبر هذه الصراعات مررت الكاتبة عديداً من الرؤى، مثل عدم التعارض بين خصوصية الثقافة وعالمية التعليم، وأن إحداهما لا تنفي الأخرى، وأن تطوير المهارات وتحصيل العلم وتعلم اللغات لا يعني التخلي عن الهوية واللغة الأم كركيزة لها. وإلى جانب هذه الرؤى التي عبرت عن القضية الرئيسة للسرد، طرقت خليفة عديداً من القضايا الأخرى، التي تؤرق المجتمع العربي الكبير، مثل شيوع القيم الاستهلاكية والركض خلف اقتناء الماركات العالمية، وسطوة المال وأثره في تبدل القيم والسعي خلف الربح السريع، وانفراط المنظومة العربية بخاصة بعد احتلال العراق للكويت، وبشاعة الحروب وقسوتها ونتاجها من الخراب والتهجير، والصراعات الطائفية، والأخطار الجسيمة للتكنولوجيا، والتحضر الزائف والمغلوط.

كما تطرقت إلى تاريخ طويل وممتد من سرقة الغرب تراث الشعوب العربية وتاريخها وكذا آثارها التي تباع في المزادات الغربية، بعد أن سُرقت من مصر وسوريا وليبيا والعراق خلال فترات شابها غياب الاستقرار السياسي والأمني

تحولات وطفرات

إلى جانب ما تقدم، رصدت الكاتبة عديداً من التحولات التي طرأت على المجتمع، مثل اندثار نمط الحياة داخل العائلات الكبيرة، ونزوع البعض نحو التفاخر والمظهرية، والعلاقات التي تحكمها المصالح، وتخلي بعض النسوة عن ميراث الجدات من الوقار، والركض خلف موضة عمليات التجميل.

وعزت خليفة هذه التحولات إلى الانبهار بالآخر، واستدعت قول ابن خلدون، "إن النفس تعتقد الكمال في من غلبها، وانقادت إليه". كما استدعت مقولات لغاندي، ومقولة رئيس الإمارات الراحل الشيخ زايد آل نهيان خلال حرب عام 1973، "النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي".

ومررت عديد من الحمولات المعرفية، التي تتصل بما طرحته من قضايا التراث واللغة والهوية، فتناولت تجارب المجتمعات اليابانية والكورية والعبرية، التي اعتمدت على اللغة لإنقاذ هويتها، وحمايتها من الاندثار. ومررت معارف أخرى حول العلاقات التجارية التاريخية بين الهند والإمارات، التي انعكس أثرها في موروثات شعبية واجتماعية وثقافية.

كما دفعت بمعارف عن بعض المدن ومعالمها وحضارتها وتراثها. وتسللت هذه المعارف كجزء أصيل من السرد، اتسق حضوره مع امتداد وتنوع الفضاءات المكانية التي توزعت على دبي والهند وفرنسا، واتسقت كذلك مع سمات الشخصية المحورية "مطر" المولع بالتحف والنفائس.

ولم يقتصر الخطاب المعرفي على ما يتصل بالمدن والحضارات، وإنما تطرقت إلى تاريخ الصراع العربي مع المستعمر، والمجازر التي تعرض لها الفلسطينيون منذ نكبة 1948، ومعاناتهم الشتات والتهجير. وعكس كل ما ساقته الكاتبة من معارف وما طرقته من قضايا نزوعاً عروبياً.    

وجوه الاقتناء

اتسق عشق الأبطال التحف مع فلسفة الكاتبة حول ضرورة التمسك بالهوية والتراث، لكن خليفة وإن انتصرت لمفهوم الاقتناء، الذي يحيل إلى عشق الجمال وصيانة الموروث، دانت الوجه الآخر للمفهوم ذاته، الذي يتصل بالاستهلاك والمظهرية والتفاخر والاستعلاء.

 واستوجب افتتان شخوصها المحورية بما أبدعته أيدي الأجداد وصموده، متحدياً صيرورة الزمن، استدعاء أمثلة عديدة من تلك التحف والنفائس مثل الخناجر والخشب المزين والمنحوت والسجاد والشالات والمرزي، مما برر إسهابها بالوصف من أجل منح القارئ قدرة على إدراك ملامح ذلك "الأنتيك" والتماهي مع ما يحيل إليه من أجواء تراثية: "كنت أقف أمام دروازة بيت المطر محنياً لتتسلق عيني تفاصيلها العظيمة، تلك التفاصيل التي لم تبهت مع تقدم عمري، جلبها جدنا الكبير من الهند، ذات نقوش نباتية محفورة ببذخ على سطحها، تعاشق الفن الهندي بالفن العراقي المتمثل بالبلاط القاشاني الذي تم جلبه من العراق ليكسي به إطارها المطوق لخشبها بلونه الفيروزي المحلى بالزخارف وبقع الذهب".

 كما استدعت روافد أخرى للموروث الشعبي، بينها الألعاب الشعبية "التيلة وأم سجبة"، والزي التقليدي "العباءة والشيلة والعقال والكندورة والعصامة"، وتطرقت إلى بعض الموروث من العادات، مثل الحرص على تبخير الثياب. وأبرزت الدلالة الرمزية للنخلة كمعادل للانتماء والتمسك بالتراث والهوية. وأضاءت المفارقة بين الحفاظ على الزي الموروث والتخلي في الوقت نفسه عن اللغة، وهي أهم مرتكز للهوية.

الحلم والرمزية

لجأت الكاتبة إلى تقنية الحلم للاستفادة مما يحيل إليه من دلالات رمزية، فصورت الناس داخل منام بطلتها، كقطع من السكر تذوب بعدما فقدت مناعتها للذوبان، بينما البطلة تصرخ بلا صوت، وترى وجوهاً بملامح عربية لكنها بلا أفواه، وصحفاً تتطاير في السماء ثم تختفي خلف السحاب.

واستطاعت عبر هذا الحلم تفريغ الكبت الشعوري لبطلتها، التي تعاني عزلة وغضباً واغتراباً وفزعاً، ومررت رسائل رمزية تنذر بخطورة التخلي عن اللغة العربية، وما يعنيه ذلك من ضياع للهوية. هذه الدلالات الرمزية بدت في مواضع أخرى من النسيج، فكان للصناديق المغلقة التي حملت إرث "عشبة" من ماضي طفولتها وشبابها، وكذا دموعها التي انسابت بعد إعادة فتحها والكشف عن محتوياتها، دلالات رمزية، لا تحيل إلى النوستاليجيا وحسب وإنما تشي بهول الفقد وعظمة الإرث الذي يُتخلى عنه في مقابل لا شيء.

كذلك كان إخفاء السبب الذي أودى بـ"عشبة" إلى مصيرها المأسوي بمثابة محاولة ضمنية عمدت الكاتبة عبرها لاستنفار الحس العروبي والإنساني، لا سيما أنها تركت مهمة استخلاص هذا السبب وتأويله للقارئ، بعد أن أمدته بالملامح الرئيسة لهذه الشخصية المهمومة بالهوية والقومية والوطن العربي الكبير.