يدرسون ما لا يريده المجتمع التقليدي

كتب - رمزي الغزوي 

في الأعوام الثلاثة الماضية كسر عدد من طلبة الذين أحرزوا علامات شبه كاملة في امتحان الثانوية العامة آفاق توقعاتنا الاعتيادية، ولم ينخرطوا في دراسة التخصصات المعهودة المعروفة، من طب بشري وطب جراحة الفم والأسنان والصيدلة والهندسة، بل اتجهوا كما أشارت لهم بوصلة طموحاتهم، ورغباتهم ضاربين بعرض الحائط ذلك القيد الصارم الذي يفرض على المتفوق أن يدرس كما يريده المجتمع، وأن يسير في الطريق التي رسمها له، وأن يظل في الصندوق الذي وضعه فيه.
بعض أولئك درسوا تخصصات حديثة من قماشة الأمن السيبراني ونظم أمن الشبكات وإنترنت الاشياء والبرمجة والذكاء الاصطناعي وغيرها، وبعضهم اتجه إلى العلوم البحتة ودرس الفيزياء والرياضيات، وآخرون منهم درسوا العلوم الإنسانية. وهذا توجه مهم يحتاجه بلدنا.
من بديهيات الأشياء أنَّ من لا يعرف أين يريد الذهاب؛ فإن كلّ الطرق ستأخذه إلى هناك. وأنَّ المشي وحده يصنعُ الطريق، وأن الطرق المعبدة لا تأخذك إلا حيث وصل الناس. وأنَّ التغريد خارج السرب ليس دوماً شذوذاً أو خروجاً عن السياق لأجل الخروج، بل ربما كان إبداعا ورؤية جديدة ولحناً أجمل.
ولهذا يعجبني الذين يفكرون خارج الصندوق وخلف الأطر التي يفرضها المجتمع في العادة على المتفوقين. ويعجبني الذين ينتظرون من أهلهم أجنحة قوية فقط؛ ليطيروا حيث شاءوا هم، ويعجبني أكثر أؤلئك الطلبة لا يأبهون بالهالة الاجتماعية التي وضعنا أنفسنا فيها منذ عقود كثيرة وفحواها: كن طبيباً أو مهندسا ولا تبالي، حتى بات هذان التخصصان متخمين تخمة غير عادية.
أولئك الطلبة كان بإمكانهم أن يجنحوا مثلما يفعل كثير من المتفوقين نحو دراسة تخصصات يحفل بها المجتمع كثيرا، وما زال يراها طاقة فرج رغم التخمة التي تعاني منها، ورغم الركود الذي ينتظر المنخرطين فيها مع كثير من الأسف. هؤلاء يعرفون ما يريدونه تماماً، ويعلمون أي الطرق يسلكون وأي الجهات يتجهون، ويدركون أكثر أن الحلم يحتاج متابعة وإصراراً وعنادا، وأنه ليس من السهل، أن يتخلى الواحد عن لقب دكتور أو مهندس في مجتمع مهووس بعقدة الدال والميم وظلالهما.
نحتاج هذه العقلية، وهذه الرؤية في أبنائنا. فنحن في خضم الثورة الصناعية الرابعة، وجوهرها الرقمنة، والذكاء الاصطناعي والبرمجة والبيانات الضخمة. ومعلوم الآن، أن شركات رقمية حديثة تفوق عشرات الدول في اقتصادها وأهميتها وتأثيرها وحظوظ مستقبلها.
نحتاج أن يتولد هذا الحس في أبنائنا وهم في صفوف مبكرة من دراستهم، علهم يجنحون نحو العمل التقني والفني ونحو المهن والحرف الدقيقة واليدوية والمهنية، التي فيها مجالات رحبة للعمل. نحتاج إلى هذا النمط من التفكير؛ كي نخرج من طوق البطالة ونوقف ضخ المليارات من أموالنا إلى الخارج عن طريق مهن يمكن لأبنائنا أن يمتهنوها ويتقنوها.