المنطقة عالقة بين الصمت الإستراتيجي والانتظار الإستراتيجي
اعتقد الكثيرون أن إيران ستمتشق صواريخها من اللحظة الأولى لاغتيال المرحوم اسماعيل هنية وأنها ستغرق اسرائيل بكم لا يحصى من الصواريخ الباليستية بالشراكة مع حلفائها العرب لكن كل ذلك لم يحدث، فإيران التي تواجه ما يعرف 'بحضن الموت الإسرائيلي' والذي تكمن فكرته في انه إذا وجدت إسرائيل نفسها في موقف محاصر فإنها تلجأ إلى تصعيد كبير قد يؤدي إلى تدمير واسع للطرفين كنوع من الردع بمعنى «إذا كنا سننهزم فلننهزم معاً».
استخدمت إيران وسائل عديدة لمراوغة خصومها ومن أهمها الصمت الاستراتيجي وهو نهج يعتمد على الامتناع عن اتخاذ مواقف علنية او الإدلاء بتصريحات رسمية بشأن قضايا معينة مما يعطيها مرونة سياسية ويمنع التصعيد ويبقي خياراتها مفتوحة بسبب إخفاء النوايا الحقيقية وكمظهر من مظاهر الثقة بالنفس وقد استخدمت هذه الوسيلة في المفاوضات على البرنامج النووي وفي أغلب النزاعات الإقليمية، وهذه الطريقة جنبتها الضغوط ومكنتها من العمل من خلال حلفائها في المنطقة، أما بعد اغتيال هنية والذي يمثل انتهاكا صارخا للسيادة الوطنية الإيرانية وتسبب في انهيار معادلة الردع التي كانت قائمة بين إيران وإسرائيل مما جعلها ملزمة بالرد لأن عدمه سيجعل اسرائيل تتمادى في اعتداءاتها، وهذه لحظة مربكة جداً لإيران لأنها لو ارادت المواجهة المباشرة لما اخترعت مفهومي الأذرع والدفاع المتقدم، لكن ايران لن تعدم الحيلة فها هي تبتدع مفهوماً جديداً يسميه البعض بالصبر الاستراتيجي والبعض الآخر بالانتظار الاستراتيجي، وهو مصطلح يشير إلى ايجاد مقاربة محسوبة ومدروسة في التعامل مع الضغوط والتحديات الخارجية ولاسيما مع الخصوم مثل الولايات المتحدة واسرائيل، وتنطوي هذه الاستراتيجية على التريث وتجنب المواجهة الفورية وانتظار ظروف وفرص أكثر ملائمة قبل اتخاذ إجراءات مهمة.
وفي هذا السيناريو تستخدم ايران الوقت كواحد من أدوات الصراع علّ وعسى ان تحصل تغيرات سياسية في المشهد السياسي العالمي او الإقليمي تفيد موقفها، او ان تحدث تغيرات سياسية لدى العدو قد تجنبها التصعيد وبالتالي الخسائر والاستنزاف، وفي ذلك السياق تستخدم المفاوضات لغايتين الأولى لكسب الوقت والثانية للحصول على صفقة كبيرة وهي معلومة بالنسبة لإيران، ويتيح لها الصبر الاستراتيجي ممارسة ضغط نفسي على خصمها في سبيل استنفاد مقدراته في توقع شكل الرد وماهيته وهذا ما عبر عنه الأمين العام لحزب الله، إذاً ايران تستخدم هاتين الأداتين كي تعطي نفسها الفرصة للوصول إلى رد منضبط وهذا يشير بوضوح إلى أنها ليست بصدد خوض مواجهة كبرى.
ما سبق يشير إلى أن إيران ليست دولة متهورة وغبية فهي تهندس ردودها وفق استراتيجيات معلومة مسبقاً في مواجهاتها المختلفة، فهي غالباً تضع الهدف أو الأهداف التي تخوض لأجلها هذه المواجهات مع الولايات المتحدة او اسرائيل، وهي هنا لا تخرج عن الاعتراف بالنظام الإيراني وشرعنته غربياً والاعتراف بمكانتها الإقليمية والدولية كطرف قائد، والاعتراف بالبرنامج النووي الإيراني وفك الحصار عن ايران وودائعها في الغرب، وبسبب كل ذلك هي تحارب الغرب ولكنها امتنعت عن المواجهة المباشرة معه إلا في مناسبات قليلة، وبدل ذلك تمكنت من تجنيد أدوات تقوم بدور المواجهة المباشرة مع تلك القوى الدولية في أكثر من مكان في العالم وأهمها المنطقة العربية، فقد استعملت الطائفة في مكان وأججت بواسطتها القتل والدمار واستعملت القضية الفلسطينية في مكان آخر ونجحت في ذلك نجاحاً منقطع النظير، وعندما اقتضت حاجتها دمج أذرعها برغم صراع الدم بينهم تمكنت من توحيد الساحات بغض النظر عن اختلافاتهم الأيديولوجية وصراعاتهم الدموية بطريقة تدعو فعلاً إلى الانبهار، وذلك جعلها تصبح قوة ضاربة واستطاعت ان تضغط على جميع الأطراف لتحقيق مكاسب مهمة وضعتها في موقع اللاعب المؤثر على المستوى الإقليمي والعالمي.
بالتالي يبدو من العبث القول ان ايران يمكن أن تضحي بكل هذه المكاسب في مواجهة كبرى لأجل الانتقام ولأجل منطقة استخدمتها هي وقضاياها وأشخاصها لتكون اداة في اليد الإيرانية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المذكورة أعلاه، بالتالي فإن الرد الإيراني لاستعادة الكرامة سيضمن ألا تنزلق هذه الدولة في مواجهة جادة مع الغرب لأن ثمن هذه المواجهة سيكون كبيراً وربما يطيح بكل شيء.