في غزة حدث كل شيء

إنها شهور من اختزال أحداث التاريخ وتكثيفها رأيناها حيّةً بكل تفاصيلها في غزة، من يتخيّل أن هذه الشهور لمن عاشها في غزّة كانت كافية ليقول إنه امتد عبر التاريخ البشري بكل موبقاته وأوزاره وفضائله، فهو شاهد كيف يكون الموت على أنواع وأشكال ومستويات مختلفة إلى درجة التناقض، شاهد كيف يذوي الإنسان جوعاً، أو برداً، أو وجعاً، أو خوفاً ورعباً.

تريدون مشاهدة معاني الإيثار والتضحية والأنانية والبطولة والخسّة والنذالة والرجولة والخديعة والفجيعة والفظائع والمجازر واختلاف مستويات اللون الأحمر للدماء، والدمار ومشاهدة القذائف عياناً وهي تهوي على رؤوس الأبرياء.
تريدون مشاهدة كيف يكون التعاون وقسمة رغيف خبز يابس بين عديد من الأفراد، تريدون مشاهدة كيف انمحت عائلات بأكملها من الأحوال المدنية لأنه في ليلةٍ ظلماء جائتهم قذيفة عمياء أو صاروخ عشوائي ليدفن منهم أحياء أو ينهي حياة بعضهم أو يبقي أحدهم بجراحه ليكون شاهداً على مذبحة أهله.
تريدون مشاهدة وتفسير حي لمعنى الوحشية التي قرأتم عنها في الكتب للمغول والتتار والحروب العالمية، فقد تطوّع قطعان الكيان الصهيوني بإعادة تلك المشاهد بأفظع منها وبأدق تفاصيلها.
حدث كل شيء، حدث أن يحمل الضحية بعد قليل جريحاً أو شهيداً أو معاقاً، حدث أن يموت الإبن والأب والأم والأخ والأخت وأن يمسح دفتر العائلة بأسره في لحظات.
حدث أن يركض الناس وسط البحر على أمل تحصيل مساعدة غذائية فيموتون غرقاً قبل أن يصلوا لطرود المساعدات. حدث أن أصبح هناك اجتهادات بأكل كل وأي شيء في سبيل البقاء قيد الحياة. حدث أن يطلب من الناس اللجوء لأماكن سيراً على الأقدام، وما أن يشرعوا بالسير حتى تنهال عليهم قذائف وصواريخ تبيدهم عن بكرة أبيهم.
حدث أن يحرم الإنسان من كسرة خبز لأيام طوال، وما أن تتاح له تلك الكسرة حتى يغصّ فيها من الجوع والمهانة.
حدث أن تكتظ شوارع خان يونس ورفح بالهاربين بأبدانهم وأبنائهم يهيمون على وجوههم لا يعرفون أين يستقرون وماذا ينتظرهم. حدث أن يصبح هناك آلاف الأطفال أرباب عائلة لوحدهم بعد أن فقدوا العائلة كلها.
حدث أن يصبح ناقل الجريح شهيد، وناقل الخبر هو الخبر بذاته. حدث أن يتدافع الآلاف في سبيل تحصيل أكفان لموتاهم دون أن يتمكنوا من ذلك، فيتركونها جثثاً ملقاة في الفلاة تقتات عليها الحيوانات.
حدث أن غزة أكبر سجن مفتوح في العالم تصبح كلها أرض موحشة متوحشة تفترس أبناءها.
في غزة حدث كل شيء، لا حاجة بعد غزة انتظار أية حروب أو غزوات أو معارك، لا حاجة لكتابة التحليلات والتقارير وتوثيق الحالات، لم يسلم في غزة شيء من الإبادة للمكان والزمان والبشر والحجر والثقافة والتاريخ والحضارة، كلها تم استهدافها بخسّة ووحشية ونذالة.
غزة رواية ليست بحاجة لتهذيب أو إعادة صياغة، فهي أسطرت الواقع وفقأت أعيننا بكل ما لا يمكن تصوره.
غزة أصبحت المرجع العالمي الوحيد الكافي الشامل لدراسة وتأمل التوحش البشري الفظيع.
لا عليكم فقد تكفلت غزة وحدها أن تغرز أصابعها المبتورة في جلد مغتصبها، وما زال بحر غزة يلملم جراحاتها عند الصباح، لتبدأ مرحلة جديدة من نزف الحياة.