استدعاء مشروع « الفتنة» تحت لافتة القداسة
أسوأ، بل أخطر، ما يمكن أن نفعله، وقد فعلناه، هو أن نستدعي «الدين» لمنح حصانة سياسية، أو إصدار صكوك أحكام قطعية، تفرض وجهة نظر واحدة، تعتقد انها الصواب، ثم تمنع المناقشة في القضية، أي قضية، حتى لو كانت مشروعة، مع انه من المفترض ان اي فعل بشري قابل للنقد، وان اي قضية يجب ان تخضع لتعددية الاراء، واحترام الاختلاف بينها، ما دام أن الذين يباشرونها بشر، يصيبون، وقد يخطؤون أيضاً. حدث ذلك حين رفعنا شعار «الخلافة» فانقسمت الأمة إلى قسمين، وأخذتنا الفتنة إلى سفك الدماء، تماما كما يحدث اليوم حين رفعنا شعار «حرب غزة»، فانقسمت مجتمعاتنا حول من خرجوا للشارع للتظاهر فتقمصوا المقاومة، او حتى، اختطفوها، ثم حاولوا تهديدنا باسم الدفاع عنها، عندها بدل أن نتوحد لمواجهة المحتل القاتل، اشتبكنا مع بعضنا في سجالات مغشوشة، وتبادلنا الاتهامات بالخيانة والتخاذل، وتعطلت عقولنا عن النقد أو النقاش، كل ذلك تحت لافتة عصمة القائمين عليها، وقداسة المتحدثين باسمها، والمدافعين عنها. أشير، فقط، إلى واقعتين حدثتا في تاريخنا، واترك للقارئ الحصيف مهمة اسقاطهما على ما يحدث في واقعنا وبلادنا ايضا، لأن أي محاولة لفهم ما جرى منذ 7 أكتوبر وحتى الآن، ثم مصارحة الجمهور بما تردد في شوارعنا من أصداء لهذا الحدث، ومن ارتدادات وانفعالات أعمت عيوننا عن الواقع، وتركت لنا فسحة من الأحلام وربما الأوهام، كما تركت لآخرين فرصة الاستفراد بالمشهد، وربما التسلل لتهديد أمننا الوطني واستقرارنا، ستضعني في مواجهة تيارات عنيفة تتحدث باسم الدين احيانا، والوطنية احيانا اخرى، لا تريد أن تعترف بالواقع، أو تتعامل معه بمنطق الفهم والاستيعاب، والحيطة والحذر، وربما تخرجني من الملة الدينية والوطنية معا، إذا ما تطرقت لذلك. لقد انشغلت أمتنا، على مدى تاريخها الطويل، بمشروعين اثنين، أفرغت فيهما كل امكانياتها، وجندت من أجلهما طاقاتها، وهما: مشروع «الفتنة»، ومشروع «المحنة». الأول خرج من دائرة توظيف الدين لمصلحة السياسة، وتسبب بشق «المجتمع» الإسلامي، وانتهى بالأمة الى الركون لحالة من «الاستبداد» والفوضى، آنذاك رفع الطرفان « المصحف» على أسنة الرماح، واقحموا «خلافة» المسلمين في صميم النص الديني المقدس، ومنعوا العقل المسلم من التفكير، وانتهت النازلة إلى افتراق الأمة، وما زلنا ندفع ثمن فاتورة الفرقة حتى الآن. جاء المشروع الآخر الذي يشكل الوجه الثاني «للفتنة» وهو مشروع «المحنة» والابتلاء (بين الخليفة المأمون وابن حنبل)، وقد بدأ بالمواجهة بين «النخب»، حيث استخدم القرآن الكريم، ايضا، «سياسياً» للإطباق على المجتمع وتعميم منطق «الطاعة» عليه، كما استغلت بعض التيارات ما حصل لتفخيخ فكر الأمة، واختطاف ارادتها الحرة. أصبح «العنف» مرجعية لهذين المشروعين، وتأسست «الذات» العربية التي جاء الوحي ليحررها من الخوف والحقد والضغائن، ويحثها على السماحة واللين والتقوى والوحدة، على «مبدأ» العنف الذي بموجبه انتصرت الغلبة والقوة و»العصبية» والقبلية على القيم الأخرى الفاضلة، كالعلم والأخلاق وسيادة الدولة والعمران..الخ. ?كان الدين - للأسف - حاضراً في «المشروعين»: مشروع «الفتنة» ومشروع «المحنة»، لكن الدين هنا لم يكن ممثلا «بالنصوص» السامية ومقاصدها وما تحققه من مصالح للعباد، وإنما ببعض التيارات والأشخاص الذين فهموه ووظفوه، ثم باشروه بممارساتهم، وبالمجال «العام» السياسي الذي تحركوا فيه، وبالقضية التى رفعوها وأحاطوها بالقداسة، وبالتالي فإن «مصدر» العنف والفوضى والخلاف خرج بالضبط من هنا، حيث اصطدم منطق الدين بمنطق محاولة احتكار الصواب، وانتهازية السياسة، بكل ما احتملت هذه الانتهازية السياسية من شهوات واجتهادات ومزايدات، ومحاولات لبناء الغلبة والاستفراد بالجمهور، على حساب بناء الدولة والمجتمع والإنسان. ?المشكلة أننا تعاملنا - وما نزال - مع هذين المشروعين وما انتجاهما من عنف وإقصاء بمنطق «التقديس» للتاريخ والاشخاص، كما نتعامل اليوم تماما مع نازلة غزة وغيرها، ولم نسمح لأنفسنا بمراجعة ناقدة لما حدث، وبالتالي فإننا ندفع الآن ثمن هذا «الصمت» بمزيد من «القابلية» والاستعداد لتدمير انفسنا بأنفسنا، فيما الآخرون « يتدافعون لذبحنا، او يتفرجون علينا، شامتين أحياناً، ومشفقين احياناً أخرى. ما أشبة الليلة بالبارحة، يا خسارة !!