في الجدل حول الإنزالات الجوية الأردنية على غزة.. دعوةٌ للتركيز على الهدف
فيما ينقسم العالم إزاء حرب الإبادة والتجويع التي يشنها جيش الاحتلال على أهلنا في قطاع غزة بين مشارك في المجزرة ومتفرجٍ عليها برزت مواقف واجهت كمّ الضغوط الهائل وانبرت لنصرة غزة وأهلها وقضية فلسطين، فكان الموقف الأردني الذي عبّر من اليوم الأول عن استشرافٍ عميق لمخاطر العدوان ومآلاته المدمرة على فلسطين والأردن والمنطقة، وهنا لسنا بوارد "التسحيج" الأعمى بقدر مايعنينا البناء على قراءة سابقة قدمناها في "بلكي نيوز" حول موقف ودور الأردن الرسمي والشعبي، وصولاً إلى تقديم قراءة موضوعية للجهد الاستثنائي الذي بذله الأردن عبر الإنزالات الجوية للغذاء والدواء لمساعدة أهلنا في غزة في مواجهة الإبادة والمجاعة التي فرضت عليهم على مرآى ومسمع من العالم أجمع ، لا مناكفةً ولا انجزاراً وراء فذلكاتٍ ممنهجة غايتها إفراغ الحدث من مضمونه والتصويب عليه خدمةً للمتقاعسين العاجزين، فحديثنا موجّه لمن يبحث عن السردية السليمة التي يفترض أن يُقرأ المشهد من زاويتها، حمايةً للحقيقة من عبث العابثين، وبناءً على الموقف لما فيه تقديم ماهو أعظم خدمةً لأهلنا المحاصرين ولأنفسنا في معركة وجود حقيقية تتكشف ملامحها يوماً تلو آخر ، سيما وأن مانعيشه اليوم من أحداث وتطورات سيكون الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل المنطقة ووعي أبنائها.
في المشهد العام، ولعله من سخرية الأقدار ومما يوجع قلب الحليم أن مواقف بلدنا وقراراتها وجل ماتقوم به قد بات محط تنازعٍ في الآراء، سيما مع الفوضى العارمة التي تشهدها وتسببت بها مواقع التواصل وغياب المنطق والاستدلال السليم في الاشتباك الدائم الذي تفرضه وتسعى لتعميمه ، بحيث تطغى الشعبويات والتشكيك والمزاودة على لغة الوعي والإخلاص والوطنية ، وبقدر ماتوجعنا سهام بعض الأشقاء العرب المزاودين أو المغتاظين الساعين لتشويه الحقائق وتسفيه الانجازات وتصفية الحسابات ، تقتلنا سيوف بعض أبناء وطننا الذين ينجرون إلى ذات المربع ؛ عن جهلٍ حيناً وعن اعتياد طباع العابثين أحياناً ، ولانستنكر هنا أبداً أصوات الذين يقرّون بأهمية مايقوم به الأردن لكنهم يتمنون ماهو أكثر ، بل نشاطرهم الرأي ونتمنى أكثر منهم أن تتغير الأحوال وتتوحد جهود العرب والمخلصين في العالم وصولاً إلى واقعٍ يقدم الجميع فيه مايحمي أهلنا في غزة ويوقف العدوان ويلجم الكيان وداعميه ويحقق لفلسطين نصراً مؤزراً سيكون له عظيم النتائج على مستوى القضية و"دول الطوق" بل وعموم المنطقة والمستقبل العربي.
و الحديث في الإنزال لاينفصل عن توصيف الموقف والجهد الأردني الذي انطلق من اليوم الأول ، بدءً بما أسميناه الاستنفار الدبلوماسي على أعلى المستويات وماشمله من موقفٍ واضحٍ لا لبس فيه ينصب تحديداً على ضرورة وقف العدوان ، مروراً بالجولات الملكية المتعددة واستضافة القمم واللقاءات ومحاولات تمتين الموقف العربي او بناء موقف دولي داعم لجهود وقف العدوان، وماتبعه من تركيز هائل على ملفين : تقديم كل إغاثة ممكنة لأهلنا في غزة ، وتعزيز عوامل صمود أهلنا في الضفة ، حيث ساحة حربٍ لاتقل خطورةً ولايلتفت إليها أحد ، ويضطلع الأردن وحيداً بإدراكه مخاطر مايخطَط لها وبإيمانه بوحدة الدم والمصير ، فكان أن فرض الأردن مبكراً ورغم تعنت الاحتلال وفي صمت وإخلاص إدخال قوافل غذاء ودواء إلى الضفة الغربية ، وإرسال مستشفىً ميداني إلى نابلس "فضلاً طبعاً عن المستشفى الميداني في غزة الذي لم يستمر في العطاء لسنوات طويلة" . وقتها أيضاً تندّر البعض واستغرب البعض الآخر، وقلنا حينها بأن الأردن يستشرف تصعيداً في الضفة ويسعى لاستباق ذلك عبر مد أهلنا هناك بعوامل العيش والصمود، وسرعان ماتبيّنت صوابية القراءة الأردنية، فازداد التضييق على أهلنا في الضفة، وبدأ التجويع والحرمان والاستهداف، ولم ينتظر الأردن من المشككين والعابثين شكراً ولا اعترافاً بصدق نواياه وحسن تدبيره، سيما وأن المخطط في الضفة يستهدف الأردن تاريخياً، ولنا في ذلك دلائل كثيرة سبقت حرب الكيان الدموية على غزة واستمرت معها.
على جبهة إسناد غزة لايخفى على أحد تواطؤ العالم وحجم الحصار و التضييق لمنع المخلصين من تقديم واجبهم ، سيما وقوافل الإغاثة تزدحم في المناطق الحدودية مع الشقيقة مصر، ويحاول العدو وداعموه استخدام هذا الملف لبث الفرقة والشقاق بين الأشقاء العرب عبر تبرئته رغم أنه من قصف الجانب الفلسطيني من معبر رفح عدة مرات ، وعبر الغمز من قناة أن الحصار يفرضه الأشقاء لا جيش الاحتلال ، فتعذَّر إدخال المساعدات التي كان للأردن الرسمي والشعبي حصة وازنة منها ، والتي جرى إرسالها تباعاً وتتكدس على الجانب المصري في انتظار تبلور موقف دولي ضاغط بديلاً عن تعاظم التواطؤ واستمرار الحصار ومحاولات إنجاز أهداف العدوان بالتجويع والحرمان بعد ان استعصى على العدو تحقيقها في الميدان بفضل بسالة المقاومة وصمود وعظمة أهلنا في غزة.
جاء خيار إيصال المساعدات إلى غزة عبر الجو بديلاً وحيداً لتعذّر إدخالها براً ، وطرح الأردن ذلك في حوارات عديدة مع الأطراف الدولية الفاعلة ، وقوبل بالرفض أو الابتزاز عبر ادعاء ان أحداً لايضمن رد فعل الكيان، ففرض الأردن رؤيته على قاعدة ضرورة إمداد المستشفى الميداني الأردني في غزة لتعويض مافقده من أدوية ومستلزمات بحكم ازدياد الحاجة وإصرار العدو على ارتكاب أفظع الجرائم بحق المستشفيات والمراكز الصحية في القطاع المحاصر ، ولوّح الأردن بالتصعيد ففرض أول إنزال جوي ترك في قلوب وعلى ألسنة أهلنا في غزة عظيم الأثر . ثم توالت الإنزالات مع اشتداد الحصار وتفاقُم الجوع والحرمان واستمرار الصمت والعجز ، بعضها أعلن عنه وبعضها الآخر جرى تناوله دون إعلان رسمي ، وكان لافتاً إصرار الدولة على تحدي الاحتلال من جهة وعلى إعطاء الفعل أكبر وزن وقيمة من جهة أخرى ، فرأينا ولي العهد الأمير الحسين، والأميرة سلمى يشاركان في الإنزالات إلى أن تسرب أول مقطع لمشاركة جلالة الملك شخصياً والتي تكررت لاحقاً ، وهنا نود أن نتساءل عن مغزى ذلك ورسائله ، والسؤال هنا برسم الباحثين عن قراءة موضوعية للمشهد ، لا المشككين المزاودين الذين لن يقتنعون بغير مايخدم تخاذلهم وعجزهم وجبنهم عبر توجيه الاتهام لمن يقوم بدور أو عبر التشكيك في النوايا والمآلات؛ فنسأل : هل كان الأردن مضطراً لأن يشارك الملك شخصياً وأفراد العائلة الهاشمية في الإنزالات ؟ وماهي رسائل ذلك؟ ونجتهد فنقول أن الجواب تجده في أصداء ذلك عند أهلنا في غزة تماماً كما في أروقة السياسة والإعلام عند كيان الاحتلال ، فأهلنا في غزة الذين وصلتهم رسالة الأردن وجيشه العربي ومليكه عبّروا بوضوح عن فخرهم ومحبتهم وإدراكهم لحجم المحبة والحرص والأخوّة التي حملتها طائرات سلاح الجو قبل أن تحمل صناديق الإغاثة التي أُعدّت بعناية وأنزلت باحتراف بحيث تواجه كل الظروف المعاكسة، فيما رصدنا بوضوح كمّ الحنق والغضب في أوساط ساسة وكتّاب وإعلاميي كيان الاحتلال تجاه دور الأردن وتعدد إنزالاته الجوية ومايبنى على ذلك أو يُقرأ منه … لم تكن الرسالة اذاً رسالة استعراضٍ أو تباهٍ، وجلالة الملك الذي يشهد القاصي والداني بأنه صاحب أكثر موقف داعم للأشقاء في فلسطين لم يكن مضطراً للمشاركة شخصياً لولا الحرص على إيصال مجموعة رسائل أبرزها إظهار حجم الانسجام بين الموقفين الرسمي والشعبي، وأن الموقف من غزة ليس موقفاً لرفع الحرج بل هو موقف صلب يؤمن به رأس الدولة كما أصغر طفلٍ في ربوع المملكة ، تماماً كما هي الرسالة للأصوات التي تحذر من ضريبة قد يدفعها الأردن لاحقاً ثمناً لموقفه المعاكس والمتحدي لمخطط الكيان وأهداف الأمريكي ونهجه في المنطقة، وهو ماظهر واضحاً في المؤتمر الأخير الذي جمع جلالة الملك بالرئيس الأمريكي في واشنطن ، والذي عبّر فيه الملك بوضوح عن موقف مخالفٍ لموقف واشنطن من استمرار العدوان واجتياح رفح وإدخال المساعدات، في وقتٍ تبتلع دولٌ عظمى وأشقاء كثر ألسنتهم خشية الاصطدام بالصلف الأمريكي. لم يكن الأردن مضطراً للمجازفة بإرسال طائرات سلاح الجو، مابالكم بالأب الذي يرسل أبناءه ويذهب شخصياً في مهمة عظيمة تحتمل كل المخاطر ، سواءً المعتادة في مهام كهذه أو المترتبة على صلف وعدائية وهمجية الكيان الذي يرفض أي جهدٍ يناهض حربه الدموية الإجرامية على قطاع غزة… كان أولى إذاً أن يرى الجميع مشهد الإنزالات من زاوية أعمق وأدق ، وأن يضع كل منا نفسه موضع صانع القرار ويحاكي ما اتخذه استناداً إلى حجم العدوان والضغوط والمخاطر وإلى كم الرغبة في تقديم العون للشقيق وفق ماهو أكبر من المتاح.
واهمٌ من يعتقد أن تداعيات العدوان على غزة ستقف عند حدود القطاع المحاصر أو حتى حدود فلسطين فقط ، ومخطئ من يظن أن بلدنا بعيد عن الاستهداف ، وحيث أننا جميعاً نشهد بأم أعيننا حجم التواطؤ والتآمر وشدة العدوان وحجم الدعم الذي يحظى به من دول كبرى، يصير لابد من توحيد الجهود كافة لضمان تقديم كل مايمكن ولتمتين واقعنا في مواجهة القادم الخطير علينا وعلى القضية والمنطقة ، سيما وأن دولاً عربية وإقليمية تمتلك أضعاف مانمتلك تقف عاجزةً لاحول لها ولا قوة ، فينصب رهاننا على شعبنا وموقفه ووطنيته، وعلى موقفنا الرسمي الصلب الذي يستند إلى مروحة واسعة من العلاقات المتينة، وعلى مؤسساتنا وجيشنا وعقيدته وعلى صدقية مواقفنا وحتمية انتصار الحق على الكيان الدخيل السرطاني.
يقال أن العاقل يسعى في المواقف نحو قراءة دقيقة سليمة ثم يحاكم التفاصيل بناءً عليها، وفي موضوعنا هذا فلننطلق من مسلمات لايختلف عليها اثنان ؛ موقف الأردن التاريخي الثابت من القضية الفلسطينية والمنطلق من روح الأخوّة وعمق العلاقة ووحدة المصير ، ومن المخاطر التي تتهددنا ، ومن ثوابت شعبنا، ومن نوايا الكيان المعلنة تجاهنا وتجاه القضية ومقدساتها التي نحظى بشرف الوصاية الهاشمية عليها ، والتي تعتبر ثابتاً لانقاش فيه من ثوابت موقفنا ، بمعنى أن موقف الأردن لايمكن أن يغادر مربع الدفاع عن غزة والوقوف بكل مانملك إلى جانب أهلها ، لكن ذلك لايعني أن لانأخذ بعين الاعتبار حجم المصاعب والاستعصاءات التي تواجه كل من يسعى لنصرة غزة وأهلنا الصامدين الصابرين فيها، مايستدعي ببساطة أن نصطف جميعاً ضمن هذا الموقف بدل تشتيت الجهد في التشكيك والتأويل أو حتى في الرد على المشككين والمزاودين الذين يبررون ضعفهم وعجزهم بل وتآمر أنظمة بعضهم عبر مهاجمة كل جهد يُبذل للتقليل من شأنه ، وفي خلاصةٍ للتاريخ .. فلنوحّد الجهد ونسند الموقف الرسمي وننزّه نفوسنا عن الصغائر ؛ فالقادم خطيرٌ وكبير ، ولايحتمل خوضه بموقف مشتّت أو التفاتٍ لأصواتٍ نشاز أو تبديد الجهد والوقت في الرد على أصواتٍ تأتي من الخارج يغيظها دور الأردن وقدسية موقف شعبه والاستعداد الصادق للذود عن مبادئنا وبلدنا وقضيتنا، والحاضر خطير ويستدعي التركيز على الهدف وهو بذل كل جهد لوقف العدوان وتقديم العون لأهلنا المحاصرين أياً تكن مواقف الآخرين وتعبيراتهم، مايهمنا اليوم هو غزة ، ولن يثنينا عن مساندتها أصوات النشاز من حولنا، ومن يرشقنا بسهامه فليساندنا لنقدّم ماهو أعظيم ، أو فليقدم جزءً مما يقدّمه الأردن أو فليصمت .