خيارات إسرائيل الصعبة

خياران صعبان يواجهان "إسرائيل"؛ إما أن توقف عدوانها على قطاع غزة لجملة متغيرات (...) أو تتجاهل هذه المتغيرات،َ وتواصل حربها بدفع من أهدافها المعلنة، وحساباتها الداخلية.

في الحالين، الكلفة كبيرة على "إسرائيل"، فإيقاف العدوان يحمل معنى واحد؛ هزيمتها وفشلها في تحقيق أهدافها، وإذا ما واصلت عدوانها فالشروط الذاتية والموضوعية لا تمكّنها من تحقيق هذه الأهداف. لكن لجهة المقاومة، فتوقف العدوان يعني تحقيقها نصرا أكيدا رغم الأكلاف التي دفعتها غزة، وحال تواصل العدوان سيؤجل نصرها لحين نضوج ظروفه الموضوعية، لكن مع مزيد من الكلف. ولوضع الأمور في سياقاتها الطبيعية وصولا إلى استنتاجات منطقية للمالآت، لا بد من تدقيق ظروف ومتغيرات كلٍّ من الخيارين؛ وقف العدوان أو مواصلته. وقف العدوان: يتكىء هذا الخيار على متغيرات داخل "إسرائيل" وخارجها، تعمل ضد مسارها وحساباتها، وتمكنت المقاومة بذكاء شديد من تعميقها وتصعيب قرار الاحتلال، والمقاومة فكرة والفكر لا يمكن أن تهزم. أولا: خلقت الهدنات المتلاحقة بيئة جعلت عودة العدوان بذات زخم بدايته مسألة معقدة وصعبة، ولن نقول مستحيلة. إذ شكلت ورقة الأسرى أحد أهم مصادر القوة للمقاومة التي أسست للهدنة الأولى وتمديدها مرات، بما أظهر قوتها وتماسكها وسيطرتها (...) وفاقم أزمة "إسرائيل" التي سيقت إلى فخ من متوالية الصفقات بدأت بتبادل النساء والأطفال، ولاحقا ستجد نفسها في وضع أكثر تعقيدا عند بدء التفاوض على صفقة ثانية تتصل برجال مدنيين وجنود منن خمس فئات. تعلم "إسرائيل" يقينا أنها في الصفقة التالية ستخضع لما هو أشد قسوة أمام شرط تبييض سجونها من الأسرى الفلسطينيين، وسيكون هناك عامل مساعد في ذلك وهو ضغط مجتمعي مستمر داخل الكيان لتحرير كل أسراه. وهذا الملف أوجد انقسامات حادة وعلنية داخل "إسرائيل" بين مؤيد ومعارض، وسط خشية قوى متطرفة في الحكومة من إجبارها على صفقة تبادل تشمل وقف الحرب. وإذا ما أصبحت هذه الخشية واقعا فـ"انفراط" الائتلاف الحكومي؛ يصبح واردا جدا حال نفذ وزيرا الأمن القومي المتطرف بن غفير، والمالية سموتريش تهديدهما بالاستقالة، لذا قد تدار مفاوضات الصفقة الثانية تحت وقع النار لتجنب انهيار الحكومة. ثانيا: تفاقم الشكوك داخل "إسرائيل" بشأن القدرة على تحقيق نصر حاسم وفقا للهدفين المعلنين؛ تحرير الأسرى عسكريا، وتصفية وجود حماس وذراعها العسكري. واقعيا، الهدف الأول سقط، فـ"إسرائيل" فشلت في تحرير أسراها عسكريا واضطرتها المقاومة إلى التفاوض (...) كما لم تحقق أيّاً من أهدافها العسكرية، فلا هي وصلت إلى الأنفاق، ولا قضت على تسلسل قيادة المقاومة ومراكز التحكم والسيطرة. وهو ما يعيد تأكيد أن "إسرائيل" بالغت في وضع أهداف ليس بمقدورها تحقيقها، ولا على أي مستوى، وبدت عالقة في مستنقعٍ أكلافه باهظة، لن تقوى على دفعها طويلا، وستضطر بالنهاية للخروج مهزومة. ثالثا: خسرت "إسرائيل" الرأي العام العالمي الذي بات ينحاز لصالح القضية الفلسطينية، ويضغط لوقف العدوان على قطاع غزة. فما حازه الكيان من تعاطف بداية حربه خسره سريعا جراء جرائم الإبادة الشاملة لكل شيء، وانكشاف روايته المحرفة والمنحرفة التي لم تعد تقبل التصديق. رابعا: الأهم، شكّل اتساع الرأي العام المتبني للسردية الفلسطينية سببا لإزاحات في مواقف رسمية غربية، وأخذت دول فيه تتحدث عن هدنات طويلة، وعن ضرورة تدفق المساعدات الإنسانية لغزة. عمليا، الرسمي الغربي حساس حيال مواقف الشارع ومزاجه ويتأثر بها لأسباب انتخابية على الأقل، فضلا عن كون الرسمي الغربي ملزما، ولو شكليا، بأن يدافع عن قوانين ومواثيق أممية، وعن قيم وأخلاقيات إنسانية كانت دوما عناوينه الرئيسية في رسم صورته. وإلا؛ كيف نفسر طلب عشرين موظفا في البيت الأبيض عقد لقاء مع كبار المستشارين لمناقشة الحرب على غزة، والتمامل في وزارة الخارجية، ونشر مسؤولة في المخابرات الأميركية على الفيس بوك صورة تدعم غزة، ودعوات متنامية داخل الكونغرس لتقييد المساعدات لـ"إسرائيل"، فضلا عن حسابات بايدن الانتخابية. خامسا: ليست فقط ثقة الإسرائيليين مهتزة بالقدرة على حسم الحرب، بل العديد من المسؤولين الغربيين تولدت لديهم قناعات مشابهة بأن "إسرائيل" بعيدة عن تحقيق أي نصر، وإطالة أمد العدوان ليس في صالحها. وهذا الغرب لن يحتمل أكلاف حربٍ لن تنتهي بشيء مما ذهبت "إسرائيل" لتحقيقه في قطاع غزة، فكيف إذا توسعت الحرب جنوبا وشمالا. موقف الغرب هذا بطبيعة الحال يأتي بالضد من مصالحه حيث تُعدُّ "إسرائيل" قلعته وأداة هيمنته في المنطقة، وهو ما يشكل مأزقا كبيرا لهذا الغرب لا يعرف كيف يواجهه. سادسا: تأكدت أميركا وحلفاء لها أن مشروعها في الشرق الأوسط انتهى، أو في أقله أصبح بعيد المنال، فلا طريق الهند المتصادم مع طريق الصين سالكة، ولا التطبيع مع العالم العربي، الذي يؤسس لهذه الطريق، بقي على الطاولة. أعلاه جملة أسباب، إلى جانب غيرها، قد تدفع لوقف الحرب، لكنها ستجعل "إسرائيل" كيانا فائضا عن حاجة الغرب وعبئا عليه، فكيان كُسِر وهُزِم وفقد صورة القوة والردع وأسباب الهيمنة لا جدوى منه. لذلك؛ قد نكتشف نمطا غربيا مغايرا؛ موقفا علنيا ينادي بتمديد الهدنات وإدخال المساعدات ويلوم "إسرائيل" على القوة التدميرية المفرطة استرضاءً لعموم الرأي العام، وسراً قد يدفعها إلى حسم المعركة بقوة وسرعة مع محاولة تجنب المدنيين وأن لا تعيد "إسرائيل" تكرار ما فعلته عسكريا في شمال القطاع في جنوبه. فهم أو كشف هذا النمط الغربي المحتمل يمكن تلمسه بإجابة سؤال أسباب خيار استمرار العدوان على قطاع غزة، وهي: أولا: يبرز السبب الانتقامي الشخصي جليا عند الائتلاف الحكومي والمستويات الاستخبارية والعسكرية جرّاء فشلهم في التنبؤ بخطوة المقاومة في 7 تشرين أول، فهؤلاء يريدون نصرا يعوض الفشل ليعودوا به إلى الإسرائيليين على أمل منحهم فرصة للبقاء فاعلين في الشأن العام، وفي أقله عدم محاسبتهم بقسوة. ثانيا: عند رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو سببه الخاص وهو تمسكه بالحكم، وخشيته من السجن، لذلك هو لا يستعجل نهاية الحرب من دون أن يحقق هدفه المتبقي وهو تصفية حماس وذراعها العسكري، وتبديل واقع قطاع غزة. ثالثا: يشكل فقدان الإسرائيليين للأمن وقوة الردع سببا كافيا لدعم العملية العسكرية ومواصلتها، وليس لديهم أي مشكلة في وصول حرب الإبادة لقطاع غزة أقصى حدودها تحت وهم أن هذه الحرب ستجلب لهم الأمن وتستعيد كرامتهم التي تحطمت، وتفوقهم الذي تهشم إلى الأبد. رابعا: إدراك "إسرائيل" أن دعم الغرب لها يرتبط في جانب منه بوصفها قلعة متقدمة للهيمنة وحماية مصالحه، وإذا ما استعادت هذا الدور فقد يتخلى عنها الغرب، أو يتراجع دعمه لها إلى الحدود الدنيا، وستتجرأ عليها قوى أخرى في المنطقة. خامسا: فشل "إسرائيل" عسكريا وهزيمتها معناه إجبارها على القبول بتسويات سياسية من مثل حل الدولتين، وهو ما لا تقبله إطلاقا، لأن ذلك يتناقض تماما مع اتجاهات اليمين المتطرف المتمثل بحكومة الائتلاف، ويتناقض مع مخطط ضم الضفة الغربية، وفي الإطار العام يتناقض مع مشروع "إسرائيل الكبرى". سادسا: في عمق التفكير الغربي وبخاصة أميركا ودول محورية في أوروبا، لا يمكن فقدان "إسرائيل" كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط، لأن ذلك سيكون ضد مصالحها الكلية سواء في صراعها مع إيران وتركيا كقوتين إقليميتين، ومع روسيا والصين كقوتين عالميتين صاعدتين.. و"إسرائيل" تفهم وتعي هذا الأمر جيدا وتراهن عليه. سابعا: بعض الدول العربية الكارهة لحماس، وتلك التي رهنت وجودها ومصالحها مع "إسرائيل"، أو تخضع لهيمنة أميركا التي تفرض عليها هذا الكيان، لذلك هذه الدول لا تريد للكيان أن ينكسر وينهزم في غزة، لأسباب أميركية ولأسبابها الذاتية القائمة على خطر إيران وأذرعها، والخشية من صعود الإخوان المسلمين. "إسرائيل" مأزومة جدا ومرتبكة بين الخيارين، لكنها في ظل أسبابها الذاتية والموضوعية قد تغامر وتواصل عدوانها على قطاع غزة وتفاوض على أسراها تحت النار، وإذا لم تضمن مواصلة الدعم الغربي العلني لها، قد تحاول أن تصل مع دوله الرئيسية إلى تفاهمات بحيث تترك لهم انتقادها علنا وتحصل على دعمهم سرا، مع تقييد العمليات العسكرية في جنوب القطاع لمنع تكرار ما فعلت في شماله. على كل حال مثلما قد تصبح المسألة بالنسبة لـ"إسرائيل" حياة أو موت.. بالنسبة للدول العربية المتضررة جدا مما يفعله الاحتلال في قطاع غزة يجب أن تكون المسألة أيضا حياة أو موت، لأن زوال التهديد لوجودها رهن بتوقف العدوان على القطاع.