يشتد صراع القوى العالمية في يومنا متجاوزاً عسكرة الأرض نحو الاستعراض بالقوة الفضائية وبوتيرةٍ لا هوادة فيها، وباتت الأقمار الفضائية لا تُستخدم فقط لأغراض التصوير والاتصالات والطقس والملاحة، بل للصواريخ البالستية والاستراتيجية والتجارب العسكرية والمراقبة والتجسس ومنظومات صواريخ أرض- فضاء والهجمات السيبرانية.
ويواجه العالم مستقبلاً خطراً غير متوقع، قد تتعطّل الحياة فوق الأرض بسبب صراع فضائي، وقد بدأت البوادر الأولية لهذا الصراع تظهر؛ حيث الهجمات السيبرانية للسيطرة والتحكّم بالأجهزة واختراق قواعد البيانات، وهذا أول انعكاسات عسكرة الفضاء التي ستذهب بعيداً في الإخلال بالحياة العامة فوق الأرض.
وبحسب خبراء بالفلك والفضاء تحدثوا لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، فإن الصراع الفضائي يستدعي فرض مصطلحات "دبلوماسية الفضاء" أو "عقلنة الفضاء" أو "سلمية الفضاء" وأن على المؤسسات الدولية التحرّك سريعاً في ظل وصول عدد الأقمار العسكرية والأمنية بالفضاء إلى أكثر من 320 قمراً، ويزداد هذا العدد كثيراً إذا ما حسبنا الأقمار السلميّة التي يتم استخدامها لأغراض أمنية عسكرية، حيث أكدت المجلة الصينية لتكنولوجيا الدفاع الحديثة في بحثٍ علمي نشرته في أبريل الماضي، على أن الاستخدامات العسكرية التي تنفذها الأقمار الفضائية السلميّة هي كثيرة جداً، وأن الفضاء يصعب التمييز فيه بين القمر العسكري والقمر السلمي ويختلط الأمر كثيراً.
والانفلات في عسكرة الفضاء والتسليح كما يصفه خبراء فلك، يزداد رغم وجود قوانين ومعاهدات الفضاء الخارجي التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنّت بالإجماع قرارًا يحظر إرسال أسلحة الدمار الشامل إلى الفضاء الخارجي، إضافة إلى معاهدات حصر استخدام القمر وجميع الأجرام السماوية بالأغراض السلمية فقط وتأكيدها بأن الفضاء ملكٌ الجميع، كما تنص معاهدات دولية أخرى خاصة بالفضاء الخارجي، على عدم إقامة مستعمرات عسكرية أو مدنية في الفضاء.
وزاد الحديث حول هذه المعاهدات بشكلٍ جلي بعد إعلان وكالة الفضاء (ناسا)، مشروع (أرتيمس) والغرض منه إنزال بشري وإنشاء مستعمرة بشرية على سطح القمر، وتحويله إلى محطة عبور للبعثات المأهولة إلى الفضاء السحيق بشكل عام، وإلى المريخ بشكل خاص.
وتسليح الفضاء هو الحرب القادمة كما يؤكد متخصصون عرب، حيث بدأت تخطط بعض الدول بإنشاء محطات فضائية تعطيها حرية كبيرة في نشر الأسلحة بالفضاء الخارجي، مستغلين في ذلك عدم وجود قوانين ومعاهدات رادعة، مشيرين إلى أن مصلحة البشرية اليوم أن تضع رادعاً للتسلّح الفضائي واستخداماته العدوانية والاستفزازية التي سيكون الجميع فيها خاسراً بالنهاية .
وبحسب نائب رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، والبروفيسور في الجامعة الأهلية بالبحرين، شوقي الدلال، بدأت التجارب السرية لتأهيل أقمار عسكرية تقوم بتدمير الأقمار الصناعية الأخرى بأشعة الليزر، إضافة إلى تطوير أقمار تعمل على توجيه الصواريخ المنطلقة من الأرض إلى مكان آخر في الأرض أو حولها، أو توجيه الصواريخ التي تطلقها الطائرات نحو أهدافها.
ويفسّر الدكتور الدلال أن عسكرة الفضاء بدأت منذ إطلاق القمر (سبوتنيك) عام 1957، وأن العسكرة الفضائية تتم حالياً بطريقة تخدم الصراع على الأرض الأمر الذي يؤدي إلى اتساع رقعته الجغرافية فوق الأرض، موضحاً أن عسكرة البحار والمحيطات المرتبطة بأقمار عسكرية هي أخطر من تسليح الفضاء نفسه.
بدوره وصف رئيس الجمعية الفلكية السورية، الدكتور محمد العصيري، مشهد الفضاء بساحة المعركة بعدما كانت مكاناً للاكتشافات المبهرة، قائلاً: الفضاء اليوم هو محل استفزاز تستخدمه القوى الكبرى ضد بعضها والتحكم بالشعوب التي لا تملك هذه القوة، معتبراً الفضاء ساحة الحرب القادمة المليئة بالاستفزازات والاستعراض والاستعمار والتهديد والعقوبات .
وتضيق الأرض بالقوى الدولية بحسب الدكتور العصيري، والتي أصبح همها حجز مزيدٍ من المساحة في الفضاء وتقاسم المهمات الفضائية، محذراً من الاستمرار في الاستحواذ على النفوذ الفضائي وأن البشرية اليوم بحاجة إلى عقلنة بما يتعلّق بالفضاء .
ويتحدث رئيس جمعية الفلك بمنطقة القطيف بالمملكة العربية السعودية، الدكتور أنور آل محمد، عن الانتظام التكويني لهذا الكون والذي يقتضى وجود الانتظام التشريعي، والعكس، أي أن استعمال الفضاء بطريقة عادلة ومنتظمة يؤدي إلى تعزيز الانتظام التكويني بين الأرض والفضاء مما يوفر خدمة أفضل للإنسان على الأرض ويحسن من جودة حياته في مختلف المجالات الحياتية.
وبين أن تسخير الفضاء لخدمة المصالح الذاتية والضيقة ضد دول وشعوب، يؤدي إلى حدوث خلل تكويني ويلحق الضرر بالجميع فوق الأرض، قائلاً: إذا تم استخدام الفضاء في المجال العسكري من طرف فإنه سيؤدي إلى استخدامه من طرف آخر وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إلحاق ضرر بالفضاء نفسه والذي تعتمد البشرية عليه في أغراض كثيرة، محذراً من تعطّل الحياة فوق الأرض في لحظة ما بسبب العسكرة الفضائية.
ووصف الدكتور آل محمد، أضرار تسليح الفضاء وانعكاسها السلبي على الجميع، بأضرار تلوث الغلاف الجوي التي تؤثر على الجميع فوق الأرض، مؤكداً أن أفضل طريقة لتلافي أضرار التسليح الفضائي هو تراجع الدول الكبرى عن هذه المنافسة الخطيرة وإبقاء الطابع السلمي الخدمي على الأقمار المُرسلة .
إن سيناريوهات الصراعات القادمة في الفضاء تنقسم الأسلحة فيه إلى قسمين بحسب رئيس الجمعية الفلكية الأردنية الدكتور عمار السكجي، أسلحة مضادة للأقمار الصناعية حركي ويعني إطلاق صاروخ أرض- فضاء لتدمير القمر الصناعي بطريقة مباشرة أو أن يحمل مجموعة من الدرونات والقذائف بحيث يقوم بتدمير أو إعطاب القمر الصناعي أو إخراجه من مداره وهذا مكلف للغاية وله مساوئ عديدة وهي زيادة عدد المخلفات الفضائية، وسلاح غير حركي وهو الأخطر والأقل ثمناً وقد بدأ منذ زمن، وهو استخدام تقنيات الحرب الإلكترونية والهجوم السيبراني من تشويش وسيطرة واختراق البيانات أو عطب وشل القمر الصناعي أو السيطرة على وحدة التحكم في القمر الصناعي وتحويل كل إمكانياته إلى يد الجهة الأخرى ويتحوّل للعمل تحت سيطرتها.
كما يتضمن السلاح غير الحركي إمكانية عطب وتدمير الأقمار الصناعية من خلال تقنيات أشعة الليزر من خلال محطات أرضية أو فضائية وهناك سباق تسلح في هذا المجال حيث طورت الصين قبل أشهر أجهزة تصوير تعمل بالليزر ويمكنها تصور الأقمار الصناعية في المدار وبدقة تصل إلى مليمتر.
ويحذّر الدكتور السكجي، من بدء قيام بعض جيوش الدول الكبرى بدمج الأمن السيبراني والحرب الإلكترونية والفضاء مع عملياتها، وان الاستراتيجية الفضائية باتت تتطلّع لدى بعض القوى إلى ضرورة التفوق الفضائي للتحكم بجمع المعلومات والاتصالات، والتركيز على العمل والبحث والتطوير في مجالات الحواسيب لكي تصبح قوة فضائية متفوقة، مشيراً إلى أن العالم بات رقمياً ويرتبط بالفضاء بكل المجالات، وأن تعطّل الحياة فيه يتحقق بسهولة إذا ما نتج صراع فضائي دولي .
من جانبه قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية، البروفيسور جمال الشلبي، إن إرسال المركبات والأقمار الفضائية كان هدفها الأساسي خدمة البشرية برمتها، لكن هذا بدأ ينحرف، وبدأ استخدام الفضاء لغايات التقدم العلمي وخدمة الإنسان وحياته على الأرض، يتغيّر نحو اتجاهات خطيرة من الصراع والاستحواذ والنفوذ.
واعتبر الدكتور الشلبي أن إعلان بعض القوى الدولية عن قدرتها على تدمير الأقمار الصناعية في الفضاء، سبب حالة من التوتر العالمي في الوقت التي تحاول البشرية التخلّص من الأسلحة النووية، إلا أن التسلّح الفضائي جاء ليزيد من أعباء القلق والمنافسة غير الشرعية بين أطراف القوة من جهة وبين مَن يملك التكنولوجيا والآخر الذي لا يملكها.
وفي الفضاء روّاد فضاء ومركبات وقواعد ورحلات مكوكية ومركبات سابرة تعمل جميعها على الجوانب السلميّة، وفي حال حدث أي صِدام كما يشير الدكتور الشلبي، يعني هذا أن العمل الجبار والمُذهل الذي يقوم به مؤسسات وأشخاص خدمةً للبشر، سيتوقّف أو يتراجع، إضافة إلى ما ستشهد الفضاء من مخلفات وشظاها تجعل سلامة روّاد الفضاء بخطر .